رحلة في صحراء موريتانيا تفتن السياح الغربيين

5 مارس, 2021 - 16:46

"عملت لبضع سنوات في فرنسا في شركة سياحية تقوم بتنظيم رحلات راجلة وبصحبة الإبل، لا سيما في الصحراء الموريتانية.‏‎ ومع مرور الأيام، أُصبت بالسأم من الحديث عن السفر مع عملائي وأنا جالس بين جدران أربعة أمام الكمبيوتر، ‏‎لذلك قررت المغادرة وتجربة السفر بشكل واقعي".

 

بهذه المقدمة بدأ فالانتان الفرنسي الحديث عن زيارته للصحراء الموريتانية، قائلاً في حديثه لرصيف22: "كانت البداية على الطريق من سانتياغو دي كومبوستيلا (Saint-Jacques-de-Compostelle)، ثم عشت مع عائلة من البربر في صحاري المغرب، وانتهى بي المطاف هنا في آدرار في موريتانيا، ولحسن الحظ، تسببت جائحة كوفيد19 في فرض بقائي وإقامتي في ترجيت في ولاية آدرار الموريتانية لبضعة أشهر".

كما يقول فالانتان، هذه المدة الطويلة جعلته يكتشف رتابة الحياة في الصحراء الموريتانية، فأصبح يستمتع بالجلسات الطويلة فيها وشرب الشاي الذي يتذوقه بكل حب وحبور.

بعد أشهر من إقامته في موريتانيا، غادر فالانتان لكنه قرر العودة، وهو اليوم في زيارة ثانية "يعود الفضل في جزء كبير منها إلى عبد الرحمن، صاحب نزل الزرگة"، كما يقول، موضحاً: "أنا اليوم في موريتانيا وفي رحلة راجلة مع الجمال والبدو أُصوّر فيلماً عن تجربتي الجديدة".

عبد الرحمن ابن شنقيط وصديق السياح

تُعتبر الرحلات في الصحراء الموريتانية على الجمال وبصحبتهم، أبرز الأنشطة التي تجذب السياح الغربيين، وعبد الرحمن ولد أحودي (38 عاماً) هو أحد أبناء مدينة شنقيط من الذين ينظمونها باستمرار، بالإضافة لكونه صاحب نزل في المدينة.

يسرد عبد الرحمن حكايته لرصيف22، فيقول:"‎ولدت في مدينة شنقيط وتربيت فيها ولا زلت أقيم فيها. بدأت قصتي مع الرحلات وأنا في السنة الثالثة الإعدادية، حيث قابلت مجموعة من الأوروبيين كانوا ينوون الذهاب في رحلة بين مدينة شنقيط وودان على الإبل، فذهبت معهم. كان ذلك عام 2001، وكانت تلك أول رحلة أقوم بها".

يتابع عبد الرحمن قصته بالقول: "حين عدت استأجرت منزلاً وكان  فيه غرفة واحدة، ومن هناك بدأت مشروعي فكنت حين يأتيني زبون غربي أؤجره الغرفة وحين يأتي آخر أقول له إن المكان مشغول، فيظن أن النزل مليء والحقيقة أنها غرفة واحدة".

ويضيف شارحاً طبيعة عمله: "في البدايات عام 2002، كنت متواضع الإمكانيات، ولأن أجرة الإبل باهظة قررت تنظيم رحلات على الحمير بين شنقيط وودان. وكانت مدة الرحلة سبعة أيام. ومع الزمن، أصبح الزبون يحضر غيره ليتطور المشروع حتى أصبحت أنظم الرحلات على الإبل للفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين، إضافة إلى الآسيويين، وكانت الإبل تحمل المتاع ونحن نكون راجلين".

"نقطع عشرين كيلومتراً في النهار على الأقدام، ونقوم برحلات بين شنقيط والعگيلة، ومن العگيلة والزرگة ومحيرث وترجيت، ونبيت في الصحاري، حيث نقدم للسياح الخبزة في الصباح والشاي، ونسير في النهار وفي فترة الظهر نصنع لهم أكلاً خفيفاً وبارداً، وحين نصل لترجيت يسبحون في العين هناك، ومن مدينة أطار يرجعون لبلدانهم وهكذا".‎

ويواصل عبد الرحمن سرد حكايته، فيقول: "في العادة، من يأتينا من السياح من أهل آسيا مثل اليابانيين ومن كوريا والصين، وأيضاً بعض الإنكليز، ومن خلال الاحتكاك مع الزبائن والسياح أصبحت أتحدث الإنكليزية، ثم اليابانية وذلك بسبب سائحة يابانية، قضت معي ثلاثة أشهر، حيث كانت تقوم ببحث أكاديمي حول المخطوطات. المهم، كنت أتحدث معها بالانكليزية وبعض العربية وتعلمت منها هي لغتها".

بعد ذلك، حدث في انحسار السياحة بسبب بعض الأحداث عام 2007، لكن باتت تُنظّم مهرجانات رسمية مثل مهرجانات المدن القديمة وكانت الناس تستفيد، ومع ذلك "أنا لم أستفد من خلال الوزارة الوصية على القطاع، وكان زبائني من الأجانب، فيما الوزارة لم تكن تتعامل معي أيام تلك المهرجانات"

وحسب فالانتان، فصديقه عبد الرحمن من هؤلاء الذين تشعر معهم بالراحة، لأنه "مضياف ومسرحي ‏‎ولديه دائماً الحكايات والطرف الخفيفة والجميلة التي يرويها".

"قرب عبد الرحمن من البدو جعلني أفكر في أنه من الممكن التفكير في رحلة مختلفة إلى حد ما هذا العام: رحلة على ظهر الجمال مع فرقة مسرح الرُحّل Téâtre Nomade، لعروض مسائية في مخيمات البدو".

ويضيف متحدثاً عنه: "قرب عبد الرحمن من البدو جعلني أفكر في أنه من الممكن التفكير في رحلة مختلفة إلى حد ما هذا العام: رحلة على ظهر الجمال مع فرقة مسرح الرُحّل Téâtre Nomade، لعروض مسائية في مخيمات البدو".

وفق فالانتان، فبالإضافة إلى الترفيه المضمون لهذا النوع من المسرح، ستنقل الفرقة رسائل بسيطة لكنها أساسية إلى هؤلاء السكان الذين لا يذهبون إلى المدرسة ولا يقضون معظم وقتهم على هواتفهم الذكية مثل سكان المدن؛ رسائل حول التعليم والنظافة وخطر الإطعام القسري للنساء (عادة صحراوية معروفة بتسمين النساء وفق نظام غذائي محدد) ... وهذا المشروع جعلني أرغب في صنع فيلم بعنوان Théâtre Nomade au Sahara".

تعود فكرة مشروع المسرح إلى عبد الرحمن، كما يقول صديقه الفرنسي، والذي بعد احتكاكه بالبدو وجد أنهم بحاجة لبعض التوعية، ووجد أن المسرح قد يكون وسيلة مهمة لذلك الغرض، وقد عرضها على فالانتان الذي وافق وحضر مرة ثانية لموريتانيا لأجل ذلك الغرض.

"الهروب من الحداثة المتوهمة"

 يعتقد سيف الإسلام ولد أحمد محمود (63 عاماً)، وهو أمين مكتبة في مدينة شنقيط، أن أهم ما يجذب السياح الغربيين لموريتانيا هو "مدينة شنقيط القديمة بأطلالها ومعالمها السياحية مثل المسجد والمكتبات ومقالع الطين والحجارة والرحلات على الجمال عبر الصحراء الموريتانية مترامية الأطراف، هذا ما أعتقد أنه يجذب السياح، وهناك مجموعة تسمى la balaguere  شعارها هو كل خطوة تقرب بيننا لذلك يحنون الى هذا المكان ويزورونها لقضاء أوقات ممتعة فيها، وخصوصاً المشي في هذه الصحاري المتميزة حسب وجهة نظرهم".

ويؤكد سيف الإسلام على أن "السائح في الغالب لا يأتي إلا وصمم على الرجوع إلى المدينة وإلى طبيعتها"، مضيفاً: "أنا لم أذهب مع السياح في رحلاتهم على الجمال، لكن أعتقد أنها تعرفهم أكثر على صحراء موريتانيا الفريدة التي قد لا يشبهها كثيراً في هذا العالم إلا صحراء نيفادا التي تحول إليها رالي باريس داكار".

ويستقبل سيف الإسلام كذلك السياح القادمين إلى المدينة، حيث يعرفهم على الأخيرة من خلال عرض موجز عن تاريخ شنقيط والمكتبة التي يعمل بها.

من جهته، يشير فالانتان إلى أن المدن الموريتانية لم تجذبه كثيراً، قائلاً: "كانت رغبتي هي الابتعاد عن المناطق الحضرية والاقتراب من الصحراء ومساحاتها المفتوحة الواسعة وأفقها الممتد والبهي، وكنت دائماً أحلم بالبدو والقوافل القديمة والواحات والإبل، و‏‎كانت رغبتي هي أن أترك الحياة المزيفة في المدن التي أعتقد أن حداثتها متوهمة ورفاهها في طريقه إلى الزوال،  لأننا في الطريق إلى انقراض الموارد الرئيسية وضمور الركائز التي تقوم عليها أنماط حياتنا الغربية الحالية".

ويضيف: "في الحقيقة، شدتني بساطة الحياة في الصحراء، وكذلك استقلالية وعدم اتكالية أهلها الرحل الذين يبدون سعداء تماماً (على أي حال بالنسبة لعيني السائح) على الرغم من قسوة حياتهم اليومية. وأنا معجب جداً بالضيافة والكرم اللذين يُقابَل بهما المسافرون، والوقت الذي نقضيه في حال من السعادة، وتناول الشاي… وأعتقد أننا فقدنا في الغرب هذا التواصل الإنساني وهذه المساعدة المتبادلة والتعاضد والتآزر، خاصة اليوم مع التباعد الاجتماعي المفروض بسبب كوفيد" .

ذكريات عبد الرحمن وفالانتان

يروي عبد الرحمن بعض ذكرياته مع السياح الغربيين، فيقول: "في أحد الأيام، زارتني مجموعة من الروس الذين اهتدوا إلي عن طريق مغربي، كان قد اتصل بي عن طريق فيسبوك وزارني للقيام برحلة من شنقيط حتى العين الصفرة وكانت مدتها 11 يوماً. كل نهار كنا نقطع 30 كيلومتراً خلال النهار. كانت تلك رحلتنا الأولى، أما رحلتنا التي شارك فيها الروس فكانت بين المدن التاريخية مثل شنقيط وودان".

ويضيف: "قالوا لي إنهم يريدون السفر بين مدينتي تيشيت وولاته التاريخية لأنهم زاروا بقية المدن التاريخية، ولكن عندهم 15 يوماً فقط كعطلة ويومين منها سيكونان للطريق بين نواكشوط وتيشيت ونهارين بين ولاته ونواكشوط في العودة، فوافقت. المسافة بين شنقيط وولاته 400 كيلومتر وكان عليهم أن يقطعوا 40 كيلومتراً في النهار كي يصلوا لولاته من تيشيت في عشرة أيام، فوافقوا ووقّعوا على ذلك، وسرنا في الرحلة وكنا نقطع الكيلومترات المتفق عليها في النهار، وإن قصّرنا وقطعنا 38 كيلومتراً مثلاً نعوضها في اليوم التالي بقطع 42 كيلومتراً، وهكذا أكملنا رحلتنا بنجاح ووصلنا إلى ولاته في عشرة أيام".

أما فالانتان فينتقل إلى البوح بالمشاعر التي كانت تنتابه في رحلته الأولى في الصحراء الموريتانية وحاله مع صديقه عبد الرحمن ورفاقه في السفر، فيقول: "أتذكر السكينة التي شعرت بها عدة مرات بعد ساعات من المشي وحيداً وأنا في حالة تأمل عميق، حيث شعرت وكأن حالة من الدفء بدأت تغمرني، وتملّك جسدي شعور عارم بالسعادة، حيث كل شيء يفقد قيمته إلا الاستمتاع باللحظة أو ذلك الحال. ‏‎وإن كان السعي للعودة إلى الذات يمكن أن يحدث  في المدينة، فلا شك أن الأمر شبه حتمي بالنسبة لي في الصحراء".

ويختم الحديث عن تجربته بالقول: "الذي يعلق في ذهني هو ذلك الشعور بالتعب الذي يشبه الخلاص، والذي يمكن الشعور به بعد يوم جيد من المشي حيث تسترخي العضلات أخيراً، فنتمدد على الرمال ونستنشق رائحة الجمر المنبعثة من تحت إبريق الشاي، المُنشّط وحلو المذاق… وفي تلك الأثناء، نكون نتبادل النظرات المليئة بالسرور والرضى والغبطة والصفاء في نهاية الطريق الطويل الذي قطعناه ذلك اليوم معاً، وإن صاحب الأمر غروبٌ جميل، فذلك هو الكمال".

أحمد ولد جدو