انقلاب مالي .. لا استقرار مع التبعية

11 سبتمبر, 2020 - 08:26

شهدت مالي أربعة انقلابات عسكرية، منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي عام 1960؛ بمعدل انقلاب كل عشرين سنة، باستثناء انقلاب الشهر الماضي (أغسطس/ آب) الذي جاء بعد ثماني سنوات من آخر انقلاب، ضد أمادو توماني توري الذي كان قد أوشك على إنهاء ولايته الثانية في الحكم، بصفته رئيساً مدنياً، دخل الحياة السياسية بعد تقاعده من الجيش. ومن حيث السياق، ما حدث يشبه إلى حد كبير انقلاب عام 1991، الذي قاده الجنرال أمادو توماني ضد موسى تراوري، أطول الرؤساء في الحكم، مستغلاً الانتفاضة الشعبية على الأوضاع الاقتصادية.
تراوح تلقي الماليين ما جرى بين التفهم المتوجّس والتأييد المطلق للانقلاب؛ فالجيش، في هذه الواقعة، ليس سوى منفذ لمطلب الشعب الذي خيّر الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا، منذ يونيو/ حزيران الماضي، بين الإصلاح أو التنحّي. وعلى الصعيدين، القاري والدولي، عُقد شبه إجماع على رفض الانقلاب، وإدانة استخدام القوة من أجل التغيير السياسي في البلد.
وتحاول "اللجنة الوطنية لخلاص الشعب المالي"، المعروفة اختصاراً باللجنة العسكرية، إزالة الغموض واللبس، باتخاذ إجراءات (الالتزامات الخمسة عشر)، تطمح فيها إلى كسب ثقة جميع الأطراف، بدءاً بإجبار الرئيس على تقديم استقالته، قصد تمهيد الطريق لمرحلة انتقالية، مروراً بإعلان موقفهم الصريح من السلطة، فهُم بلسان قائد القوات الجوية "لن يبقوا في السلطة، وليسوا طرفاً في الصراعات السياسية والأيديولوجية، وبعيدون عنها"، وانتهاء بالدخول في مشاورات مع القوى الحية في مالي، ووفد منظمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، ولقاءات مع ممثلي الأمم المتحدة والاتحادين الأوروبي والأفريقي، وسفراء عدة دول (روسيا، فرنسا، أميركا، الجزائر، المغرب، موريتانيا).

على الصعيدين، القاري والدولي، عُقد شبه إجماع على رفض الانقلاب في مالي، وإدانة استخدام القوة من أجل التغيير السياسي

شرعن قادة الجيش تدخلهم لإطاحة الرئيس، كما ديدن باقي الانقلابات، بفشل رجال السياسة في إدارة شؤون الدولة، فيما أن مشكلة مالي الرئيسية ذات أبعاد أمنية، خصوصاً في آخر انقلابين؛ فالأول (2012) كان بعد تمرّد "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" في شمال البلاد على القوات المالية، والثاني (2020) عقب تمدّد التنظيمات المتطرّفة في أطراف البلاد. ما يعني أن جوهر الفشل عسكري، وليس سياسياً، فمسؤولية استتباب الأمن ومواجهة المخاطر المحدقة بالبلد ملقاة على عاتق قيادة الجيش، قبل مؤسسة الرئاسة.
أكثر من ذلك، كان التدهور الأمني سبباً لتدخل فرنسا في البلد، عام 2013 بموجب قرار أممي، فأعلنت الحرب على الإرهابيين والانفصاليين. وأطلقت علميات عسكرية (برخان، تاكوبا..) في حربٍ لا أفق لها، غير تعزيز الوجود الفرنسي في البلد، فقد بلغ إجمالي الجنود الفرنسيين في مالي أكثر من 5800، من دون النجاح في تحقيق أي استقرار للأوضاع، لا بل زادت حدّة الأسلحة، وإن اختلفت هوية حامليها، ما أثار شكوكاً حول الهدف الحقيقي من وجود هذه القوات. خصوصاً، بعد تزايد نشاط الحركات المسلّحة؛ الدينية أو العرقية، في شمال مالي، على مقربةٍ من مقرّات القواعد الفرنسية.

التدخل الفرنسي أدّى إلى تفاقم الأوضاع، وازدياد حنق الماليين من الاستعمار الجديد المغلف بتدخل إنساني

تنظر باريس إلى مالي كمحمية فرنسية، يشكّل الإرهاب فيها تهديداً لمصالحها، وهذا وحده مبرّر مقنع للوجود والبقاء، على الرغم من التزايد المستمر في نسب المطالبين بطرد القوات الفرنسية، بعد سبع سنوات على وجودها، وبلغت 80%؛ وفق أحدث استطلاع للرأي. فالتدخل الفرنسي أدّى إلى تفاقم الأوضاع، وازدياد حنق الماليين من الاستعمار الجديد المغلف بتدخل إنساني، بعد انتشار الوعي بلعب باريس في بلدان القارة السمراء، من خلال إيجاد التناقض بين القوى الحية (الحكام، المعارضة، الجيش...) في البلد واستثماره لمصلحتها. وتحاول فرنسا بهذا الأسلوب التحكّم في مجريات اللعب، في واحدة من أفقر دول القارّة السمراء، على الرغم من امتلاكها ثروة طبيعية هائلة؛ بوّأتها مراكز متقدمة في إنتاج الذهب واليورانيوم، ما جعلها مطمعاً للقوى الكبرى. وتسعى فرنسا إلى تثبيت نفسها قوة دولية فاعلة في منطقة الساحل والصحراء، بالبحث عن فرص لإنشاء قاعدة عسكرية، في ظل الحصار الأميركي الصيني لقاعدتها العسكرية في جيبوتي، خصوصاً أن موقع مالي يؤثر على باقي المنطقة، لا سيما على مجموعة إيكواس، وكذلك دول الساحل الأفريقي.

أيقنت شعوب القارّة الأفريقية أن التخلّص من النفوذ الفرنسي مفتاح سحري لمعظم مشكلات بلدانها

يقود ما سبق إلى استنتاج مقنع، عن أسباب عدم تدخل القوات الفرنسية القريبة من وقائع عملية الانقلاب، قصد الحيلولة دون وقوعه، وحماية الرئيس المالي المحسوب عليها، فقد أدركت أن أسهم إبراهيم أبو بكر كيتا فقدت قيمتها لدى الماليين، لذا جاء تعليقها على الانقلاب مقبولاً جداً، إلى درجةٍ لا تشعر فيها بأنه لدولة مصالحها مستهدفة، بينما تتولّى في الكواليس التنسيق مع رؤساء تجمع "إيكواس" للتفاوض مع الانقلابيين. ويفسر، على صعيد آخر، صعوبة نجاح أي تجربة ديمقراطية في دول غرب أفريقيا، وذلك، ببساطة، عائد إلى مخاوف فرنسا من إعلان خلع أي دولة بيعتَها لباريس. فأي رئيس أفرزته انتخابات ديمقراطية شفافة، ويحظى بدعم قاعدة جماهيرية، بإمكانه أن يقود هذه المغامرة التي تنذر بالشروع في محاصرة الوجود الفرنسي في بلدان غرب القارة الأفريقية. وتخشى باريس من تحوّل هذا الانقلاب إلى شرارة تصيب بلداناً أفريقية مجاورة لمالي (ساحل العاج، غينيا، بوركينافاسو، غانا، النيجر) مقبلة على تنظيم انتخابات رئاسية، في الربع الأخير من العام الجاري.
أيقنت شعوب القارّة الأفريقية أن التخلّص من النفوذ الفرنسي مفتاح سحري لمعظم مشكلات بلدانها. لأجل ذلك، تعالت أصوات تطالب بتحرير دول غرب أفريقيا من التبعية والولاء لفرنسا، وما الصراع المحتدم داخل هياكل منظمة إيكواس منذ سنوات، حول فك ارتباط مشروع العملة الموحدة للتجمع الاقتصادي بفرنسا، سوى صورة حية عن تجذّر هذه التبعية والولاء في صفوف النخب الحاكمة في أفريقيا، لدولةٍ أسقط احتجاج أصحاب السترات الصفر ما تبقى من كبريائها.

محمد طيفوري