وقفنا للمعلم… ولكن لم نُوفِّهِ التبجيلا

3 أغسطس, 2020 - 18:51

كان جبران خليل جبران يتغنى بقيمة المعلم، فجعل يقول: «أيها المعلم، سنكون خيوطًا فى يديك وعلى نوْلك فلتنسجنا ثوباً إن أردت». ومن قبله بقرون، رأى الجاحظ أن «المعلمُ قيّمٌ على الكتابِ مشتغلٌ بتدريسِهِ للناشئة. والكتابُ يحملُ أخبارَ الماضين، وبه يُدركُ الملكُ مصالحَ رعيتِه، ويقوِّمُ سكّانَ مملكتِه. وهو مستودعُ الحقيقةِ وحافظةُ العلم». ومع دوران عجلة التاريخ إلى الوراء قيل للإسكندر: إنك تُعظِّمُ مُعلِّمَكَ أكثرَ من تعظيمِكَ لأبيك، فقال: لأن أبي سببُ حياتي الفانية، ومُؤدّبي سببُ الحياةِ الباقية».
أما في أيامنا هذه، فقد علّمونا قول شوقي:
قُم للمعلم وفِّهِ التبجيلا….كاد المعلم أن يكون رسولا
لكنه لم يكن سوى كلام، مجرد كلام،  فقد أهانوه، تَعَالوا عليه، وتركوه صريعا للعوز والحاجة، وحوْلوا ما يقوم به من رسالةٍ إلى وظيفة، ثم استكثروا عليه أن يُطالب ببعض حقوقه، فانطبق عليه قول الأديب علي الطنطاوي، إذ أشفق على ولده من القيام بمهنة التدريس، مبينًا له مشقتها:»إن المعلم هو الشهيد المجهول الذي يعيش ويموت ولا يدري به أحد، ولا يذكره الناس إلا ليضحكوا على نوادره وحماقاته».
وبالفعل، صار المعلم في بلادنا عرضة للتسفيه والتندّر، وتتم السخرية منه في الأعمال الدرامية والمسرحية، وانعكس هذا على أحوال الناس في كثير من البلاد العربية في تعاملهم مع المعلم، إلى حد أنه يتعرض في بعض الأحيان للسباب والضرب من قبل أولياء الأمور، بل من الطلاب أنفسهم، بعد أن كان في الماضي شخصًا مهيبًا مهابًا.
في بلادنا العربية تتجه أحلام الصبي والشاب إلى التمثيل أو الغناء أو اللعب في المستطيل الأخضر بين نجوم الكرة، كيف لا، وهو يرى لهوهم ثراءً فاحشًا، يحصدون في دقائق أو ساعات ما لا يتحصّل عليه والده في سنة، بل سنوات، الأضواء مسلطةٌ عليهم، وكلمتهم في أوطانهم نافذة، أما المعلم، فلم يُصبح منصبه مرئيًا في عين الطموحات، فهو المطحون الذي يحصل على الفتات، ويضطر إلى عملٍ إضافي ليوفر لأسرته ضروريات الحياة، فيستيقظ صباحا لأداء عمله في مهنة التدريس، وعينه على ساعة يده استشرافا لنهاية الحصة الدراسية وموعد الرحيل.

عارٌ على أمة (إقرأ)، أن يكون التدريس مهنة من لا مهنة له، وكيف تفلح أمة يتسول معلموها وهم يحصلون على الفتات؟

أو هو في بعض البلاد ذلك المعلم الذي يصطاد الطلاب لإعطائهم درسًا خاصا، يعوض به ذلك الراتب المُهين، ليصبح في مصافّ التجار.
قال بعض النجباء: «إنما مثل المعلم مثل الطبيب يحتاج إلى إكرام ليتقن عمله، فالمعلم كالزارع الذي يبذر زرعاً ويتعهده بالماء لينمو ويحيا، إكرامه آية تدل على الفطنة والذكاء». قال الشاعر:
إن المعلم والطبيب كلاهما … لا ينصحان إذا هما لم يُكرما
فاصبر لدائك إن أهنتَ طبيبه … واصبر لجهلك إن جفوتَ معلما
عارٌ على أمة (إقرأ)، أن يكون التدريس مهنة من لا مهنة له، وكيف تفلح أمة يتسول معلموها وهم يحصلون على الفتات؟ عندما تطالع التجارب النهضوية التي مرّت بها دول لها ثقلها الاقتصادي، ستجد أن عينيك ستقفان عند التعليم كأساس لهذه التجارب، بالتعليم نهضتْ، لا بصفقات السلاح الذي امتلأت به المخازن. ففي اليابان مثّل الرهان على الجانب المعرفي في البناء الحضاري أحد مرتكزات النهضة، سواء في عهد الإمبراطور ميجي في القرن التاسع عشر إلى أن تحولت اليابان إلى دولة إمبريالية خاضعة للعقلية العسكرتارية، أُسقطت في الحرب العالمية الثانية، أو في تجربتها النهضوية بعد كارثة هيروشيما وناجازاكي، والدمار الرهيب الذي لحق باليابان، ففي التجربتين كان الاهتمام بالتعليم هو أبرز الأسس التي قامت عليها النهضة، وفرعٌ عن ذلك: الاهتمام بالمعلم من حيث تطويره والعناية بتوفير حياة كريمة له، وقد أورد سلمان بونعمان في كتابه «التجربة اليابانية» ـ والعهدة على الراوي- أن امبراطور اليابان سئل عن أسباب تقدم دولته في وقت قصير، فأجاب: «بدأنا من حيث انتهى الآخرون وتعلمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير»، وبصرف النظر عن مدى صحة هذه المقولة، فالواقع يشهد أن المعلم الياباني له مكانته الاجتماعية المتميزة، ووضعه الاقتصادي المتميز، وله رمزيته في المجتمع الياباني، وقبل سنوات فوجئت وسائل الإعلام العالمية بمشهد قيام الطلاب اليابانيين بغسل أقدام معلميهم اعترافا بحقهم وفضلهم.
وفي ماليزيا البلد الفقير، قاد مهاتير محمد تجربة نهضوية فريدة، جعلت دولته في مصاف الاقتصاديات القوية عالميا، بعد أن حدد أسباب الفشل الاقتصادي من فساد وعدم أمانة وضعف كفاءة، وتوصل إلى أن الشعب المنتج لابد أن يكون أولا شعبًا واعيًا، فاتجه إلى إيلاء التعليم أهمية قصوى، ففي عام 2000 وصلت ميزانية التعليم إلى ما يوازي 23.8% من الإنفاق الكلي، وكان من أبرز الإجراءات التي قام بها للنهوض بالتعليم باعتباره حجر الزاوية في تلك النهضة، أن السياسة التعليمية قد اعتمدت رفْع أجور المعلم والاهتمام به وتطويره.
فقط وبهذه النظرة إلى التعليم، ينشأ المعلم الرِّساليّ الذي يتحرك بدافع ذاتي يُقدس مهنته ويعطيها حقها ويخلص لها، ويعدّها مهمته في الحياة، وليس المعلم الوظيفي الذي يتطلع في بداية يومه الدراسي إلى بلوغ آخره، ويرى أنه لا ضرورة في أن يطور نفسه ويبذل قصارى جهده مقابل هذا الراتب الضعيف، الذي لا يكفيه وأسرته.
إن ما يحدث في الأردن – من جور على حق المعلم واعتقاله ومعاملته بالعسف والبطش، لأنه ينادي بأبسط حقوقه في حياة كريمة تليق بمهنته- هو نموذج يتكرر في معظم الدول العربية، التي تصر حكوماتها على إهدار ثرواتها البشرية، وتوجيه ثروات البلاد إلى قائمة عبثية من الأولويات، تتنافى مع متطلبات النهوض بتلك الدول.
الإجحاف الذي تتبعه هذه الحكومات في تعاملها مع المعلم، هو فرعٌ عن عدم إعطائها منظومة التعليم قدْرها من العناية، مع علمها الأكيد بأهمية التعليم ودوره في نهضة الدول، لكنها لا تريد شعوبًا واعية تطالب بحقوقها، بل تريد شعوبا جاهلة مُغيّبة أو يسهل تغييبها، ولله در الكواكبي إذ يعبر عن هذه الحقيقة، فيقول: كما أنّه ليس من صالح الوصيّ أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبدّ أن تتنوّر الرعية بالعلم، لا يخفى على المستبدّ، مهما كان غبياً، أنْ لا استعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرّعية حمقاء تتخبط في ظلامةِ جهلٍ وتيهِ.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

إحسان الفقيه

٭ كاتبة أردنية