أدّى انفتاح موريتانيا على العمق الأفريقي إلى تأثر ديموغرافيتها بالهجرات المتتالية، خصوصاً خلال القرن الأخير. إلى العرب والأمازيغ، أصبح الأفارقة مكوناً مهماً من سكان البلاد، لا سيما في فترة الاستعمار الفرنسي الذي اعتمد على الأفارقة والذي يطلق عليهم الموريتانيون صفة الزنوج في أعمال البناء وغيرها من الحرف. يعود ذلك إلى أنّ التواصل معهم كان أكثر سلاسة ممّا كان مع العرب والأمازيغ، الذين ظلوا في عمق الصحراء بعيدين عن مناطق سيطرة الاستعمار في الشمال والغرب وعلى الساحل.
بعد الاستقلال، كان تصادم بين العرب والزنوج. ومع ظهور العرب في الحضر وتواصل هجرتهم نحو المدن الجديدة وسيطرتهم على الإدارة والسلطة، تراجع دور الزنوج ليصبحوا أقلية نجحت إلى حدّ ما في الانسجام مع المجتمع الموريتاني وأغنته بتقاليدها وتراثها الأفريقي.
لكنّ استغلال رجال السياسة لملف الزنوج أثّر سلباً على انسجامهم حقيقة في المجتمع. في عام 1989، حدث توتّر بين موريتانيا والسنغال، اندلعت على أثره حرب عرقية بين البلدَين الجارَين، فعمدت موريتانيا إلى تعذيب وطرد عشرات آلاف الزنوج الذين كانوا يعيشون على ضفاف نهر السنغال في جنوب البلاد. هؤلاء بالنسبة إليهم، أتوا من السنغال وتوالدوا في موريتانيا. بالتالي، عاش الزنوج في ملاجئ في السنغال ومالي، وبعد انتهاء الحرب العرقية بين عرب موريتانيا وزنوج السنغال، عاد عدد قليل من الأخيرين إلى موريتانيا فيما ظلّ الآخرون ينتظرون إعادتهم إلى مناطقهم الأصلية وتعويضهم عمّا تعرّضوا له.
على مدى سنوات، استغل كثيرون ملف اللاجئين الزنوج واتخذه بعضهم مطية لانتقاد سياسة موريتانيا، الأمر الذي وسّع الفجوة بين العرب والأقلية الأفريقية في موريتانيا. وعلى الرغم من تسوية ملف اللاجئين بعودة 24 ألف لاجئ وتعويضهم، إلا أنّ قضايا عديدة ما زالت تحدث انقساماً كبيراً بين العرب والزنوج، من قبيل تعريب الإدارة وإصلاح نظام الجنسية والتعليم، عبر اعتماد نظام واحد بدلاً من نظامَين عربي وفرنسي. ويرى الزنوج الذين لا يجيدون اللغة العربية أنّ هذه القرارات تسعى إلى إقصاء كوادرهم من الإدارة ومنع أبنائهم من التعليم ومحو هويتهم.
اقــرأ أيضاً
أمادو كانو (41 عاماً) مدرّس من الزنوج، يعيش في موريتانيا كمواطن موريتاني أفريقي. قبل 50 عاماً، تركت عائلته غامبيا، حيث ما زال أعمامه وأخواله يعيشون. يرى أنّ "التعايش والانسجام بين القوميتَين العربية والأفريقية يتطوّر مع مرور الزمن وتحديث القوانين ونشر الوعي بالحقوق وأهمية الاستقرار والانسجام". ويخبر كانو أنّ "الأمر في البدء كان صعباً، وكان ثمّة توجّس وترقّب لأي حادثة أو معطى جديد، كاعتداء فرد من هنا على آخر من الشريحة الأخرى أو استيلاء قبيلة على أرض وآبار قبيلة من شريحة أخرى". يضيف أنّ "الزواج بين الشريحتَين محرّم اجتماعي، وأيّ تجاوز لهذا العرف يسبب أزمة بينهما".
اليوم، يعيش الزنوج في موريتانيا محتفظين بعاداتهم وأعرافهم وينقسمون إلى ثلاث شرائح هي "البولار" و"السونيكي" و"الولوف"، لكلّ واحدة منها لهجتها الخاصة. ويوضح خبراء في علم الاجتماع أن الانسجام بين العرب والأفارقة ما زال بعيد المنال، إذ إنّ المدن الموريتانية بأكثرها تنقسم إلى أحياء خاصة بالزنوج وأخرى بالعرب. في المدارس كذلك، ثمّة صفوف لأبناء الزنوج وأخرى لأبناء العرب، إذ إنّ النظام التعليمي فيها مقسّم إلى عربي وفرنسي. الأمر مماثل في الأسواق، والقرى أيضاً التي تأتي إمّا ذات أغلبية زنجية أو لا يسكنها سوى العرب.
يقول الباحث الاجتماعي محمد أحمد ولد أيده لـ "العربي الجديد"، إنّ "الرابط بين العرب والزنوج في موريتانيا قويّ. الإسلام يجمعهم، فكلّ العرب والأفارقة في البلاد مسلمون. كذلك الأمر بالنسبة إلى الانتماء الوطني الذي يجمعهم منذ القدم. المهاجرون الأفارقة قصدوا البلاد بحثاً عن فرص عمل واستفادوا من قانون الجنسية، لديهم ارتباط كبير بموريتانيا".
وعن مخاوف الموريتانيين من تبعات عدم انسجام العرب والأفارقة، يشير ولد أيده إلى أنّ "ثمّة هواجس لدى بعضهم من اختلال التركيبة السكانية على المدى البعيد، بسبب النظام الاجتماعي للزنوج الذي يسمح بتعدد الزوجات، بالتالي كثرة الأبناء في بلد تعداده السكاني لا يتخطى ثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة. في المقابل، تأثّر العرب بالحياة العصرية، وبدأت الأسر تتجه إلى إنجاب طفلين أو ثلاثة، بالإضافة إلى البطالة والعنوسة والهجرة التي تقلل من فرص الزواج والإنجاب لدى العرب". ويرى ولد أيده أنّ "فرض روح المواطنة ودعم الانسجام والتعايش كفيلان بتبديد هذه المخاوف التي يستغلها بعضهم ليصطاد في الماء العكر، كلما حاولت الدولة تطبيق قانون تعريب الإدارة أو إصلاح التعليم أو تنظيم إحصاء إداري".
العربي الجديد