يُعد تكليف بنجامين ستورا من طرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإعادة كتابة "ذاكرة الاستعمار حول حرب الجزائر" محاولة لدفع الأكاديميين إلى تلميع أو "إصلاح" أو رتق الفجوات العمياء التي خلّفها السياسيون وقراراتهم الضارية. إنها عملية "تنظيف"، أكثر منها محاولة لجبر الضرر وإنصاف الذاكرة.
وكان ستورا ذكياً حين علّق بسرعة بأنه لا يمثل بعمله هذا الدولة الفرنسية، وهو الذي رأى كل شيء في مدينته قسنطينة، المولود فيها عام 1950، من عائلة فرنسية، يهودية الديانة.
ويجب ألا ننسى أن فراغات مهولة تكتنف التاريخ الوطني للجزائر، ولبلدان المغرب العربي؛ المغرب وتونس على وجه التحديد، وهو ما دفع ستورا نفسه، في عمله الأكاديمي، إلى اللجوء إلى الروايات الشفاهية، والوثائق الصامتة، مثل العادات والتقاليد والمرويات وعلامات اللباس وغيرها، كما ينبغي ألا ننسى أن هناك مليون شهيد وما يزيد، ولن يستطيع المؤرخ ولا عالم الاجتماع تبرير قتلهم، مهما كانت الأسباب والحيثيات.
ولا شك في أن تلك المرحلة التي دامت من 1830 إلى تاريخ استقلال الجزائر في سنة 1962 لا يمكن فحصها بالكامل، لا من الطرف الجزائري ولا من الطرف الفرنسي، لأسباب كثيرة، لعل أولها ضخامة الأرشيف، الموجود حصراً لدى الجانب الفرنسي، من الحربي إلى السياسي إلى الإداري إلى المخابراتي إلى غيره.
وفي الجهتين معاً، هناك اليوم من يخشى منطوقات هذا الأرشيف، فهو لا يخدم مصالحه، ولا الأساطير التي نُسجت حوله، ومنهم أشخاص ورموز وفاعلون سياسيون، لا شك في أنّ النظرة إليهم أو إلى منجزهم ستكون محل شك موازنة وإعادة تقييم.
يريد السياسيون طي الصفحة، بين الجزائر وفرنسا، ويريد رجال المال والأعمال تسريع ذلك، ليهيمنوا على الأسواق، ولكن الأجيال التي نشأت بعد الاستعمار، في الجزائر أو مهاجرة في فرنسا، لم يتسن لها التمتع بـ "فضيلة النسيان"
وحتى لو اقتضى الحال تشكيل لجان بحث مشتركة، فإن ذلك يتطلب وقتاً، و"قضاة تاريخ" على درجة عالية من الإنصاف والحياد والكفاءة والصبر ونكران ذات، كي يحكّموا في الوقائع المعروضة بين أيديهم، أو تلك التي فيها اختلاف وانقسام.
لقد أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون، قبل ماكرون، أنّ حكومته كلّفت المؤرّخ الجزائري عبد المجيد شيخي، المستشار لدى الرئاسة، المكلّف بالأرشيف الوطني والذاكرة الوطنية، للعمل مع الجانب الفرنسي في هذا الشأن.
وقال تبون، في تصريحات نقلتها عنه وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، إنّ شيخي سيتولّى "تمثيل الجزائر في العمل الجاري حالياً مع الدولة الفرنسية في ما يتعلّق بالملفّات ذات الصلة بالذاكرة الوطنية، والذي يُقابله، عن الجانب الفرنسي، المؤرّخ بنجامين ستورا". وسيعمل ستورا وشيخي معاً تحت الوصاية المباشرة لرئيسي البلدين في سبيل الوصول إلى "الحقيقة"، كما قال تبون.
إنه في النهاية عمل تحت الوصاية ومراقب، يجرى فيه تقييم أخير، وتعود الكلمة الأخيره فيه إلى الرئيسين، ولا نعرف هنا مقدار ما ستسمح به هاتان السلطتان من مساحات للاختلاف وإعادة التقييم والاعتبار.
يريد السياسيون طي الصفحة، بين الجزائر وفرنسا، ويريد رجال المال والأعمال تسريع ذلك، ليهيمنوا على الأسواق، ولكن الأجيال التي نشأت بعد الاستعمار، في الجزائر أو مهاجرة في فرنسا، لم يتسن لها التمتع بـ "فضيلة النسيان"، لقد كانت آلام الضحايا و أشباح الماضي تحول دون ذلك، وستبقى.
هل هذا كافٍ؟ وهل هو عمل صحيح، أم ورقة سياسية للعب؟ أعتقد أنّ قضية الذاكرة لا تمسّ الجزائر وحدها، بل تطاول أيضاً المغرب وتونس وموريتانيا، وأنه لو جرى الانكباب على معالجة ذلك في إطار شامل، لربما مضينا كمغاربيين نحو أفق آخر، قائم على تعامل ندّي ومسؤول وكريم، مع فرنسا أو مع غيرها، في وضع إقليمي، نعرف صعوبته، وإلى أي مهاوٍ يسير.
العربي الجديد