الحكمة الإلهية في تأويل الكوارث الكَونية

19 يوليو, 2020 - 16:04

تُتيح كلّ أزمة وكلّ ظاهرة كَونية استثنائية، مثل انفجار بركان ما، أو حدوث إعصار، أو انتشار فَيرُوس خطير، سلسلة من النقاشات على المستوى الإيمانيّ الدينيّ، وخاصة إذا ما كانت هذه الأحداث ترتبط بتَبِعات تمسُّ الوجودَ البشريّ بالحياةِ أو المَوتِ أو المعاناة. وبمعنى آخر، حينما يُذعر الإنسان لأمر جَلَل وحَدَث خطير وكارثة ضخمة، كأن يرى الدماء تتطاير أو الجثث تتناثر أو الضحايا تتساقط؛ تُثار أسئلته الوجودية.

إنّها الكوارث والمعاناة البشرية ذاتها التي تتفجّر منها أسئلتنا في وضعنا المعاصر من نوع: لماذا لا يتدخّل الله في سوريا لإنقاذ الأبرياء؟ أو أين الله عمّا يجري في غزّة لنصر المسلمين؟ ولماذا سقطت رافعة الحرم المكيّ وقتلت المُصلّين الأبرياء؟ بماذا أخطؤوا؟ وهل هذا الفيروس عقوبة لنا على أفعالنا الماضية؟ وهل الحياة ستكون أكثر سهولة على أولئك الطيّبين والصالحين من النّاس؟

وللإجابة عن هذه التساؤلات فنحنُ بحاجة إلى تفكيك ومناقشة ثلاث قضايا رئيسية، هي: أولا، مفهومَيْ الابتلاء والعقوبة، وثانيا، الحكمة الإلهية من الأحداث والظواهر، وثالثا، النموذج التفسيريّ الإيمانيّ للكَون، لنخلص أخيرا إلى موقف المؤمن من الأحداث الكونية.

يعتقد جزء كبير من النّاس أنّ الأحداث الجيّدة تحصل للناس الجيّدين، وأنّ الأحداث السيئة تحدث للناس السيّئين، وأنّ الكَون في هذه الحياة يُكافئ الأشخاص الصالحين بالعواقب الجيّدة، وأنّه يُعاقب الظلمة والفاسدين بالعواقب السلبية، وهو ما نطلق عليه اسم العاقبة الأخلاقية (Karma). هنا، تبرز المشكلة الأولى، إذ إنّ مفهوم العاقبة الأخلاقية يُعدّ دخيلا من الناحية العَقدية، وقادم من الديانات الشرق آسيوية. فالحياة بالتصوّر الإسلاميّ مليئة بالمصائب والامتحانات التي تشمل الجيّدين والسيّئين، فمن أشكال الابتلاء: "ولنبلونّكم بشيء من الخَوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين"(1).

حتّى إنّ القرآن قد تنبّه لهذا المعتقد، وهذا التصوّر في أنّ الإنسان قد يظنّ أنّ ما يحدث به في الدنيا من مصائب أو نِعَم إنّما هو تعبير عن الرضا أو السخط الإلهيّ، "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)"(2). لكنّ القرآن يُنبّه على الفور في الآية التي تليها أن: "كلّا"، (17)، أي ليس الأمر كما ذهبتم إليه، ليس الإكرام الدنيوي دليلا على الرضا، ولا المصيبة دليلا على السخط بالضرورة، ومثله قوله تعالى: "أيحسبون أنّما نُمِدُّهم به من مال وبَنين (55) نُسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (56)"(3).

مشكلة الإيمان بالعاقبة الأخلاقية بشكلها المطلق هي أنّه لو كان كلّ إنسان يحصل على جزاء عمله الصالح في الدنيا، وكلّ إنسان يحصل على جزاء عمله السيّئ في الدُنيا، فإنّ هذا سيُلغي أي قيمة لليوم الآخر وللحساب والعقاب، إذ لا حاجة إليه، لأنّ كلّ الناس حصلوا بالفعل على عاقبة أفعالهم ونالوا ما يستحقّون في الدنيا. كما أنّ هذا التفسير لن يُسعفنا كثيرا حين نرى طفلا بريئا يعاني من السرطان، وامرأة صالحة تتعرّض للمصائب المتتالية في حياتها.

ابتلاء الأنبياء، وهُم الذين لا يعصون الله ولَم يعصوه، وهم أتقى الخلق وأكرمهم عند الله، مع هذا امتُحنوا بفقد الأحباء، والمَرض، والأذى، والمطاردة، وغيره من أشكال الابتلاء، فصبروا وشكروا.

عَيش بعض الصّحابة الكِرام في زمان ومكان حلّ به الطّاعون، فمَن يجعل من الطاعون عقوبة حصلت كعاقبة أخلاقية بالضرورة لأفعال النّاس فإنّما يقدح بأخلاق الصحابة وتقواهم وإيمانهم.

وثّق القرآن الكريم قصّة خالدة عن أصحاب الأخدود الذين آمنوا بالله، وألقى بهم الملك الظالم في أخدود أشعل فيه النّار فماتوا على الإيمان، فماتوا مظلومين وعاش الظلمة، لقد كانوا مؤمنين بوصف القرآن نفسه، ومع هذا ماتوا مظلومين حرقا بالنّار، لكنّ الله سينتصر لهم يوم القيامة إعادة لحقوقهم، ومكافأة لهم على صبرهم وإيمانهم.

إذا لَم يكن الأمر عواقب أخلاقية محضة، فما الذي إذن يقوله لنا التصوّر الإسلاميّ؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نُدرك أنّ الدين لا يُفهَم بنصّ واحد ولا بحديث أو آية واحدة، وإنّما بمجموع نصوصه، وبأصوله ومقاصده وروحه، إذ إن بعض الأدلّة أقوى من بعض، وبعضها ذو دلالة أوضح من غيره، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: "فاستُشكل الاستدلال بالآيات على حِدَتها، وبالأحاديث على انفرادها"(4)، والأدلّة الشرعية متوقّفة في دلالتها -بعد صحّة سندها- على: "نقل اللغات، وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، والنقل الشرعيّ أو العاديّ، والإضمار، والتخصيص للعموم، والتقييد للمُطلَق، وعدم الناسخ، والتقديم والتأخير، والمُعارِض العقليّ"(5). ومَقصِد الشاطبيّ هُنا أنّ كلّ دليل شرعيّ بحاجة إلى أن نتحقّق من دلالته عبر عدّة اعتبارات لكي نفهم دلالته، ولكي لا يكون نصّا مُقيّدا أو مخصوصا بحَدَث أو فئة أو زمان أو منسوخا من أساسه.

وعليه فإنّ الأصوليين وأصحاب المدرسة المقاصدية وعلى رأسهم الشاطبيّ يَرون أنّ الشريعة مُكوّنة من كُلّيات وجُزئيات، وأنّ الجُزئيات يجب ألا تتعارض مع الكُلّيات أو تعودَ عليها بالبُطلان. ومن الأمثلة التطبيقية على فكرة الكُلّيات وكيف تحكم على الجُزئيات وتضبطها ما ذكره ابن القيّم في كتابه "إعلام المُوقِّعين" حين قال: "فإنّ الشريعة عَدل كُلّها، ورحمة كُلّها، ومصالح كُلّها، وحِكمة كُلّها. فكلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليسَت من الشريعة، وإن أُدخِلَت فيها بالتأويل" (6).

من المقولات البديعة التي قد تختصر القول في هذا الشأن حكمة يذكرها ابن عطاء الله السكندريّ في حِكَمه، حين يقول: "إذا أردتَ أن تعرِف عند الله مقامَك، فانظر فيما أقامَك"(7)، أي إذا أردتَ أن تعرف مكانتكَ عند الله، فانظر إلى ما تفعله في حياتِك، فإن كُنتَ تفعل الخير، وتمشي في حوائج الناس، وتصدق في طلبك، ولا تظلم أحدا، وتقول وتفعل الخير، فمقامك عند الله خير، وإذا كُنتَ في حياتك تمشي في النميمة والكذب والخداع والمعصية وظلم الناس، فمقامك عند الله شرّ، فأحسن التصرّف. فمقام المرء ما يفعله، لا ما يُصيبه، وأصل هذا حديث النبيّ الكريم: "إنّ الله يُعطي الدّنيا مَن يُحبّ ومَن لا يُحبّ، ولا يُعطي الإيمان إلا مَن يُحبّ"(8). والجميل في هذا التصوّر أنّه يجعل مكانة المرء عند ربّه مسؤولية الفرد الشخصية، فمَن يسعى للخير ويلتزم فعل الخير فهو تعبير عن توفيق الله له ورضاه عنه والعكس.

الظلم المجتمعيّ والأخطاء البشرية

إنّ مصير الظالمين بحسب القرآن يحتمل وجها من وجهين، ففي سورة مريم يقول الله عزّ وجلّ لنبيه: "قلّ مَن كان في الضلالةِ فليمدد له الرحمنُ مدًّا حتّى إذا رَأوا ما يُوعدون إمّا العذاب وإمّا الساعة فسيعلمون"(9)، أيّ إنّ الخيارات التي قد تحدث للظلمة والفاسدين إمّا أن تكون عذابا عاجلا في الدّنيا أو عذابا مُؤجّلا في الآخرة. وفي هذا أصل العدل، لأنّ من تمام حُرّية الإنسان أن يقدر على المعصية والخطأ والفجور، فقد يتوب وقد يصحّح أخطاءه، وقد لا يفعل فيلحقه الحساب الأخروي. والقصد هنا أنّنا لا نعرف من بعد موت النبيّ الكريم أيّ الحوادث أُريدَ بها عذابا لأصحابها وأيّها أُخِّر إلى يوم القيامة، لكن ما نعلمه أنّ الظلمة سينالون جزاءهم في نهاية المطاف.

الأحداث الكونية والظواهر الطبيعية

إنّ الأحداث الكونية تحمل حِكَما إلهية كثيرة يصعب تفسيرها على ظاهرها، ففي حادثة الإفك والتي يظنّ المرء للوهلة الأولى عند قراءتها أنّها مصيبة وشرّ ما بعده شرّ، يأتي القرآن ليقول: "إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ"(10). والقصد أنّ الأحداث الكونية لا تكون بالطريقة التي نفهمها بها فحسب، فما يبدو خيرا قد يحوي الشرّ، وما يبدو شرّا قد يحوي الخير، ولهذا فإنّ العطاء والنِعَم قد تكون في كثير من الأحيان شكلا من أشكال الامتحان، وبعض العطايا شرّ؛ لأنّها تُعينك على الفساد.

أمّا على مستوى الأحداث الكونية، فقد أصرّ الرسول الكريم في مواضع عدّة من السيرة على فكّ التلازم بين الاعتقادات الشخصية والرغائبية وبين الأحداث الكونية، ففي حادثة كسوف الشمس التي حدثت بعد مَوت إبراهيم ابن النبيّ، صار الناس يتحدّثون أنّ الكسوف قد حدث لموت إبراهيم، لكنّ النبي سرعان ما أعاد تصحيح وتوجيه هذا التصوّر إذ قال: "لا، لم تنكسف لأجل إبراهيم، إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد من الناس ولا لحياته"(11).

ومن الصحيح أنّ القرآن والسنّة مليئان بالنصوص التي تتحدّث عن أنّ تصرّفات الناس وفسادهم الأخلاقيّ والسلوكي قد يعود عليهم بالعواقب السيئة والأمراض والأوبئة والسّخط، وهذا لا ينكره إلّا غير مؤمن. لكنّ مَكمن الخطأ الجوهريّ هنا هو أن يدّعي إنسان ما أنّ مُراد الله من الكارثة الكونية أو الوباء إنّما هو عقوبة مُستحقّة على النّاس لفسادهم، لأنّ في هذا التعيين والتخصيص نوع من التجرّؤ على الذات الإلهية يضع فيها الإنسان نفسه في مقام الألوهية ويضع إدراكه وعلمه بشكل موازٍ للعلم الإلهيّ، فيحدّد من جهته مقاصد الله ومراده من أفعاله على وجه التخصيص، وهو ما حذّرت منه الآية الكريمة: "وما يعلم جنودَ ربّك إلّا هو"(12)، أي لا يستطيع أحد أن يُحدّد أيّ الأمور هي جنود من الله وعقوبة وأيّها ليست جنودا.

أخيرا، إذا كانت مجموع النصوص دائما تخالف التصوّر والاعتقاد الموجود لدى الناس حول العاقبة الأخلاقية، فلماذا يؤمن الكثير من الناس من المسلمين وغيره بالعاقبة الأخلاقية؟

في عام 1980 نشر عالم النفس الاجتماعي مَلفن جاي ليرنر كتابه: "الإيمان بعالَم عادل" (The belief in a Just World)، ويتحدّث فيه عن اعتقاد عابر للثقافات والديانات يُوجد عند الكثير من الشعوب أنّ العواقب الحسنة تحصل للنّاس الطيبة، والعواقب السيئة تحدث للناس الشرّيرة. وعند محاولة تفسيره لذلك، وجد ليرنر أنّ النّاس يُفضّلون أن يروا الأمور والعالم يسير بهذه الطريقة لتخفيف الحرج والضغط النفسي الواقع عليهم عند رؤيتهم للمصائب والظلم الذي يحدث من حولهم، فحين يؤمنون بهذا التصوّر يصير كلّ إنسان مُستحقّا لما يحصل معه، وبالتالي ليست مسؤوليتي أن أساعده أو أن أدافع عنه (13).

واستخلص ليرنر من أبحاثه حول هذا التصوّر فكرة لوم الضحية (Victim blaming)، وهو ما يشرحه رينييه جيرار في كتابه "العنف والمُقدّس" بقوله: "نُحبّ أن نُفكِّر بالضحية هكذا، باعتباره مُستَحِقّا لما حدث له، لأنّه عادة لم يرتكب أي ذنب يختلف عمّا نرتكبه نحن، وهذا يُقلقنا داخليا، فنبحث عن خصائص خاصّة فيه، نجعل أنفسنا استثناء عنه، ويجعل من مصيبته أمرا مشروعا"(14).

تخيّل أنّك تعيش الآن في سنة 1000 قبل الميلاد، تقطع مساركَ سيرا في إحدى الصحاري، كانت ليلة باردة، وأردتَ أن تجد مأوى دافئا أو نارا تنام بقربها، لكنّك لَم تجد، وأثناء بحثك سمعتَ صوت اضطراب في باطنِ بقعة من الأرض، فتحفر، لكنّك للأسف تجدُ سائلا أسودَ كريها لا ينفع لشيء، فتلعن نفسكَ، لقد أضعتَ من وقتك وجهدك في إيجاد ما لا قيمةَ له، ثُمّ تلعن الوجود، ما قيمة هذا السائل ولماذا هو موجود بالأساس، يا للعبث.

لكنّ البشرية سيكونُ لها رأي آخر بعد 3000 آلاف سنة، فقد صار ما كان عبثا ذهبا أسودَ، له قيمة رمزية ومادية قادرة على تدفئة صحارٍ بأكملِها في الّليل. لكنّك في تلك اللحظة، وفي وجودِك المحدودِ بالزمان، تفهم على مقدار معطياتِك، لا ترى أبعدَ من أنفِك، ولا يمكنك أن تفهم أنّ للأمور أبعادا لا تظهر في اللحظة ذاتها، وأنّ ما يبدو عبثا اليوم يؤول ذهبا غدا.

من الّلافت أنّ الإنسان يملكُ من الجرأة ما يمكّنه من إطلاق الأحكام على كثير من الأمور، رغم إدراكه المحدود، وقد لا يقتصر هذا على السلوك الشعبيّ واليوميّ، إذ يحدث هذا كثيرا في الاكتشافات العلمية، ففي عام 1972 اكتشف العلماء أنّ جزءا غير قليل من الحمض النوويّ يتشكّل من أجزاء لا قيمة عملية لها، ولا وظيفة لها، مُجرّد خردة أو قمامة وزائدة تطوريّة، أطلقوا عليها اسم "Junk DNA" أيّ الخُردة.*

لكنّ سلسلة الدراسات اللاحقة، والتي تأخّرت نسبيا حتّى عام 2012، بيّنت أنّ هذا الجزء يلعب دورا مُهمّا جدّا في آليات النسخ والتشفير وتنظيمه ليعود بعدها ما كان يُسمّى خُردة ذا قيمة. وحسبك في هذا أنّك لو كُنتَ العالِم الذي يُجري هذه الأبحاث وتبنّيتَ موقفا عَقَديا بناء على أبحاثك، بأنّ أجسامنا والكون مليئة بالخردة والموجودات العبثية، وتُوفيتَ في عام 2000 مثلا، أيّ قبل اكتشاف أهمية وغاية هذا الموجود، لمُتّ ساخطا ومؤمنا بعبثية الوجود. فالحياة قصّة لا يشهد الإنسان منها إلّا حلقة صغيرة للغاية من حيث المنظور الزمانيّ.

إحدى الرسومات الكاريكاتوريّة الطريفة قامت بتعرية هذا القصور الإدراكي البشريّ في مقابل جرأته على إطلاق العبثية على الاكتشافات، وفي هذا الكاريكاتير رُسم الحمض النوويّ الخردة (Junk DNA) وهو مُلقى في القمامة، ويصيح في وجه الإنسان: مُجرّد كونِك لا تستطيع أن تفهم وظيفتنا (أهمّيتنا)، لا يجعلكَ مُخوّلا بأن تُسمّينا "خُردة".

والغاية من سرد هذه الأمثلة هو التأكيد على نقطة واحدة؛ أنّنا في كثير من الأحيان لا نستطيع أن نفهم لأنّنا محدودون بمعطياتنا الأوّلية، ومحصورون بما تراكم لدينا من معرفة علمية بزماننا هذا، وسيكون من الغرور والتكبّر أن ندّعي أنّنا فهمنا، لأنّ خبرتنا البشرية لطالما كشفت لنا جهلنا، فكلّ ثورة عِلمية بوصف توماس كون(15) إنّما هي تعبير عن انزياح مفاهيميّ لدينا للكون كما كُنّا نعرفه للكون كما سنعرفه في حلّته الجديدة.

وقد لا يعتقد القارئ أنّ هذه أحداث عارضة، إذ تتكرّر هذه القضية كثيرا من العلماء الذين يُؤلّفون في المجال العلميّ. فقد قام عالم الحفريات جاي جولد (Jay Gould) سنة 1980 بتأليف كتابه "The Panda’s Thumb" مُشيرا فيه إلى أنّ الباندا يملكُ إصبعا زائدا لا قيمةَ له. لكن هذه الرؤية انقلبت تماما سنة 1999 عندما نُشر بحث مُحكَم في مجلة "نيتشر" (Nature) قام به فريق بحثيّ ياباني، وباستخدام الصور التشريحية وُجد أنّ إصبع الباندا الذي كان يُعتقَد أنّه زائد عبثيّ بلا أيّة فائدة يلعبُ دورا مُهما يعينه على التحكّم.

ويبدو أنّنا مهما فهمنا، فسنظلّ محدودين بزماننا وأدواتنا وإدراكاتنا، وهو ما تلمح إليه الآية الكريمة: "وما أوتيتم من العلم إلّا قليلا"(16)، ولكي أدلّل على هذه المحدودية الإدراكية أقترح أن نقرأ جيدا في مَجالَين عِلميّين، هما: نظرية الفوضى (Chaos Theory)، وعلوم الأنظمة (Systems Sciences)، لأنّهما يجعلاننا أقرب من فهم مدى تعقيد النظام الكَوني ومدى تشابك الأحداث واستحالة اختزال الأحداث لتفسيرات أوّلية، إذ المُؤثّرات والمُتأثّرات تتداخل بطريقة تعالقية معقّدة(17).

بمعنى أن الحدث الواحد في الكون مهما بدا بسيطا إنّما يُعيد تشكيل النظام الكونيّ ويؤثّر فيه بشكل كلّي، وحسبك أن تتخيّل نقطة يخرج منها مئات الآلاف من الخيوط المطاطية، وهذه الخيوط مربوطة بالملايين من النقاط، المربوطة بدورها بمئات الآلاف من الخيوط، ثُمّ تقوم أنتَ بتحريك النقطة الأولى سنتيمترا واحدا فقط؛ تخيّل كيف ستتأثّر الشبكة بأكملها وتظهر بمظهر جديد.

وهكذا، فحينما يموت إنسان واحد، يُعاد تشكيل معادلات الطاقة في الكون ولو بشكل جُزئي وبسيط كمّيا من جهة فيزيائية، وكذا تُعاد تشكيل معادلات الإنتاج والاستهلاك، اقتصاديا، وتُعاد تشكيل مركّبات التربة التي دُفنَ فيها، كيميائيا، ويُعاد تشكيل الاستجابات العصبية في أدمغة أهله وأحبابه، نفسيا، وقد تتغيّر شبكة علاقات العائلة، اجتماعيا. فما نراه حدثا واحدا كما ندركه قد يكون ملايين الأحداث ممّا لا ندركه. وحول هذه التداخلات يقول جوزيف بوبر-لينكيوس: "إنّ كُلّ مرّة يَموت فيها إنسان تموت مَعه مجموعة عَوالِم"(18).

وقد يظنّ الإنسان دائما أنّه مركز للأحداث الكونية، لكنّ للخالق في كثير من الأحيان، كما تُبدي النصوص، تدبيرا آخر في مكان آخر، وكمثال للتوسيع الإدراكي لهذه المسألة، فقد جاءت مع قصّة سليمان، حينما نقل القرآن للإنسان، وعي النمل بعملِ الإنسان، وكأنّه يقول له إنّ ما تفعله في هذا الكون يطولُ غيرَك، وأن تدبير الخالق يرعى كلّ موجود، وحسبك من هذا ما جاء في الحديث النبويّ: "ولولا البهائم لَم يُمطَروا"(19)، أيّ إنّ الله أراد بقوم منعوا الزكاة أن يحرمهم الغيث، ولولا وجود البهائم بينهم على الأرض لما أمطرهم، وهذا تجسيد بسيط على أنّ الله إنّما يُدبّر للإنسان ولغيره، وللكون بأكمله، مهما جعل الإنسان نفسه مناط الفعل الإلهيّ ومنتهاه، وهذا من كمال الربوبية وجلالها وجمالها.

وعودة على نقطة الفهم البشريّ للأحداث، ستكون هذه مناسبة جيدة لشرح جزء بسيط من فلسفة النظم، بما يخدم السياق. يُمكِن تقسيم مستويات العلاقات بين الأنظمة التي نرصدها في هذا الوجود كبشر إلى أربع علاقات (20):

علاقات خطّية (Linear)، وأحد الأمثلة عليها أن تقوم بإدارة قرص التحكّم بدرجة صوت المذياع، فكلّما أدرته ارتفع الصوت، وكلّما أدرته بالاتّجاه المعاكس انخفض الصوت.

علاقات غير خطّية (Non-Linear)، وأحد الأمثلة عليها أنّك لو قُمت بتناول كيس بلاستيكي (نايلون)، وأخذت تشدّه بكِلتا يديك، فإنّه سيتمدد قليلا لمسافة معيّنة، ثُم سيتشوّه فجأة ولن يرجع لحالته الطبيعية (لاحظ أنّه في مراحل الشدّ الأولى كان يسير بطريقة خطّية، قبل أن يتشوّه).

الأنظمة المُعقّدة (Complex Systems)، وأبسط الأمثلة التوضيحية لها أنّك لو جئتَ بحبّة رمل على طاولة، ثُمّ وضعتَ حبّة أخرى بجانبها لتستقرّ كل حبّة في موضعها، وهكذا تُضيف كل مرّة حبّة جديدة فوقها وجانبها حتى تصير كومة رمال في حالة استقرار، فإنّك لو أضفتَ بعد هذا كلّه الحبّة رقم مليون مثلا، على هذه الكومة، فجأة سينهار كوم الرمل، عبر انسياب سيل من الرمل على جانب الكومة للأسفل، مع أنّنا قبل هذه الحركة لَم نحصل على "جزء واحد من المليون من الانسياب" عند وضع حبّة الرمل الأولى. ما حدث فعليا هو أنّ النظام قد وصل مستوى مُعيّنا من التعقيد، أدّى إلى ظهور سلوكيات جديدة في النظام (مثل انسياب سيل الرمل) لَم تكن تظهر أجزاء منها من قبل. تُسمّى هذه السلوكيات الجديدة بالصفات المنبثقة (Emergent Properties).

الأنظمة المتكيّفة (Adaptive Systems)، وهي شكل من أشكال الأنظمة المُعقّدة بالأساس، لكنّ العناصر الأولية لهذا النظام ليست صلبة مثل الرمل في المثال السابق، وإنّما وحدات متكيّفة، مثل البشر أو اقتصاديات السوق أو النظام العصبيّ في مخّ الإنسان.

عقوبة أم ابتلاء أم ظواهر طبيعية..

وقد تتساءل: ما علاقة هذا كلّه بموضوعنا؟ إنّ الإنسان من حيث إدراكه للأحداث في اللحظات الآنية لا يستطيع أن يلحظ نمطا مفهوما أكثر من العلاقات الخطّية وبعض العلاقات غير الخطّية في أحسن الأحوال. أمّا باقي الأنظمة فإنّه يحتاج إلى العديد من أدوات المحاكاة والتحليل الرياضي التي تساعده على تمثيل وتجسيد العلاقات الكونية في علاقة مفهومة.

وأبسط تمثيل لهذا أنّك حين ترى شخصا يقطع الشارع، وسيارة تسير، ثُمّ تقول إنّه "سيُدهَس"، فذلك لأنّ عقلك قادر على التنبّؤ بهذا الحدث بحُكم أنّ معادلات السرعة للسيارة والشخص الذي يقطع الشارع تسير وفق معادلة خطّية. لكن لماذا تصدمنا انفجار قنبلة أمامنا؟ بالإضافة إلى قوّتها التدميرية وصوتها وآثارها، فإنّ معادلة انفجار قنبلة تجري ضمن معادلات من نوع أكثر تعقيدا، تتسارع بشكل هائل على مستوى "الزمكان" (Spacetime)، وبشكل لا نستطيع إدراكه أساسا، وهو ما يُربكنا حين تسأل: ما الذي حصل؟ فيجيب: لا أعلم، لقد حدث كلّ شيء فجأة، لَم أفهم ما حدث!

أمّا الخلاصة التي ينبؤنا بها علم النُّظُم فهي أن ما يتصوّره النّاس في كثير من الأحيان مُجرّدَ فوضى أو "شواش" أو أمورا غير مفهومة ليس إلّا منظومة مُرتّبة وغير عشوائية، ولكن عقولنا لا تستطيع أن تفهمها بداهة كما هي. فكلّ ما هو عشوائي هو علاقات معقّدة لم نفهمها بعد، وكل ما هو فوضوي إنّما هو خاضع للعديد من القوانين التي لا نستطيع حصرها أو فهم تأثيرها أو التنبّؤ بسلوكها المستقبليّ(21).

ستظلّ الأحداث الكونية تحمل دلالة تفسيريّة مزدوجة إلى يوم القيامة، ولن تحسم لكَ الدُّنيا نفسها لصالح المؤمنين، وهذا شيء طبيعي أمام تصوّر ديني للدُّنيا باعتبارها دار اختبار يمتحن فيها الله إيمانَ المؤمنين، إذ لو كان الكون يحمل على الدوام دلالة أُحادية إيمانية فقط، لسقط الامتحان الدنيويّ ولصار لِزاما على الجميع أن يؤمنوا، ولجُعلت الدُنيا بأكملها من المؤمنين، "ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعا"(22). لكنّ الاختلاف سُنّة من سُنن الكون، وجزء أساسيّ فيما يجري بالكون، بل ممّا هو ضروري لاختبار الإيمان، ولأنّ حُرّية الخطأ وعدم الإيمان من مقتضيات الحِساب الأخروي، فكيف يُحاسَب النّاس على اختيارات ضرورية؟

يعلم المؤمن جيّدا أنّ في المقدرة الإلهية أن يُنزِّل من البداية آيات واضحات لا جِدال فيها تقهر النّاس للإيمان طَوعا وكَرها، كما جاء في الآية الكريمة: "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين"(23)، وفي تفسير ابن كثير لهذه الآية يقول: "لو شئنا لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، ولكنّا لا نفعل ذلك، لأنّا لا نريد من أحد إلّا الإيمان الاختياريّ"(24).

في أوّل سورة في القرآن بعد الفاتحة، سورة البقرة، فإنّ أول آيات تصف صفات المُتّقين من المؤمنين بأنّهم يؤمنون بالغَيب، والغيب كلّه مّما لا نراه ولا نملك برهنته الحسّية، فالله والملائكة والجنة والنار والحياة بعد الموت واليوم الآخر إنّما هو من الغيب. وفي المشهد الذي صوّره أحد الّلاهوتيين في حوار بين الإنسانِ والله يومَ القيامة، يسأل الإنسان: يا ربّ، لِمَ لم تُعطني الأدلّة اليقينية على وجودِك؟، فأجابه: أردتُ أن أرى منكَ بعضا من الإيمان(25).

لأنّ الإيمان يسلتزم قدرا من التجاوز لما هو عقلانيّ بالضرورة، أيّ إنّك حين تؤمن فأنتَ لا تتبع عقلَكَ فقط، وإنّما قلبك أيضا، لتُسلِّم بما لا يُسلِّم به عقلكَ بالضرورة، وهو ما يصطلح عليه الفيلسوف كيركيجارد بالعتبة الإيمانية أو القفزة الإيمانية، وهي الوثبة التي يقرّرها القلب نتيجة تسليمه، لكي يقفز على الضفّة الأخرى من النهر، تلكَ الضفّة التي تُمثِّل الإيمان، وفي هذا يقول كيركيجارد: "التسليم اللا مُتناهي هو المرحلة الأخيرة التي تسبق الإيمان"(26)، وهُو ما قال عنه باسكال في تأمّلاته يوما: "ماذا لو كانَ للقلب أسبابه التي لا يفهمها العَقل؟"(27).

إذا كانت الأحداث الكونية دائما تحمل دلالة مزدوجة، فكيف يقرأها المؤمن؟

يقترح الدكتور عبد الله الشهريّ (28) أن نستفيد من فكرة المُتشابه والمُحكَم القرآني، وأن نُعمّم منهجها على المُتشابه والمُحَكم الكونيّ، فالقرآن يتحدّث كيف أنّه يحوي آيات متشابهات غير واضحة الدلالة، تُثير الشكّ والريبة للذين في قلوبهم مرض بالأساس، أيّ إنّهم يحملون نزعاتهم التشكيكية سابقا فيلبس النصّ عليهم. لكنّ المؤمنين والراسخين في العلم فإنّهم يردّون المُتشابه إلى المُحكَم ولا تلتبس عليهم الأمور، ويرون أنّ كلّ الآيات هي من عند ربّنا بالضرورة. "فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنةِ وابتغاء تأويله"(29).

فالمُحكَم هو واضح الدلالة، لا التباسَ فيه على أحد من النّاس، والمُتشابه هو ما يُشكِل تفسيره على النّاس. فكيف نُطبّق هذه الفكرة على الأحداث الكونية؟

من المُحكمات الكونية أنّ الله حكيم يفعل كلّ شيء لحكمة، ومن المحكمات أنّ الله عدل، لا يظلم أحدا، ولن يترك مظلوما دون أن يُحاسبه في الدنيا أو الآخرة. ومن المحكمات الكونية أنّ الله يعلم دقائق الأمور وتفاصيلها، ومن المحكمات أنّ الدنيا دار ابتلاء واختبار، والمصائب تحدث للمؤمن والكافر على حدٍّ سواء.

فلو وَقَعَ حدث كونيّ متشابه، أشكل على المؤمنين وأربَكَهم، مثل إصابة رجل صالح بالسرطان، فإنّنا نردّ هذا إلى المُحكَم من أنّ لله حكمة في الأمورِ كلّها، ومن أنّ هذه الدُنيا دار اختبار وابتلاء، وبأنّه صلاح المرء لا يعفيه من الابتلاء الدنيويّ، بل على العكس أحيانا قد يُبتلى المرء على قدر إيمانه، وأنّ الله سيحتسب له صبره وضرره ويجازيه عليه.

غالبا ما يُستَقطَب النّاس في اتجاهين مُتناقضين أمام أيّ حدث كَوني؛ فريق مُعلمَن ينزع القداسة عن الوجود وأحداثه ويُنكِر أنّ للحدث أبعادا غائية خلف الحدث، وفريق يُفرِط في قصدية الحَدَث إلى الحدّ الذي يدفعه إلى التألّي على الله وتحديد مقاصده الحتمية من الحدث وتوزيع العقاب والثواب.

أمّا المُؤمن وفق مجموع النصوص والأدلّة فإنّه مُتصالح مع وجوده، لا ينزع عن الوجود قداسته ولا يغيب عن آثار الله كونه ولا فاعليته وتدبيره، ولكنّه مع هذا يتواضع أمام قصوره المعرفي وجهله، وينشغل بما هو مسؤول عنه، وعما يجب عليه فعله (سؤال العمل) أمام الظرف الراهن، وباختصار، يُمكِن لنا أن نقول إنّ المؤمن يُشكّل تصوّراته أمام الأحداث الكونية:

يؤمن بأنّ لله حكمة في الأمور كلّها، يفهم بعضها ولا يدرك كثيرها، وأنّه لا يستطيع أن يحصر حكمة الله في سبب واحد فقط أو أسباب محصورة فقط، لأنّه يجهل مُراد الله الدقيق، ولأنه محدود بقصوره الإدراكيّ.

يؤمن أنّ الله يجزي ثوابا وعقابا، ويبتلي النّاس في الحياة الدنيا بالنعم وبالمصائب، فكلّ حدث يحمل خيره وشرّه، مهما بدا خيرا صرفا أو شرّا صرفا، "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شرّ لكم"(30).

يراجع المؤمن نفسه، ويُقيّم ذاته وسلوكياته، لأنّ الأحداث الكونية دعوى لإعادة مراجعة المرء لذاته وإيمانه، وينصح مجتمعه بفعل الخير وينهاه عن فعل الشر ما استطاع بالحجّة العقلانية والأسلوب الحَسَن.

لا يستطيع أن يدّعي أنّه يعلم أنّ قصد الله من الحدث الكونيّ الفُلانيّ عقاب أو مكافأة، ففي تعيين المقصد الإلهي من الأفعال تعدٍّ على مقام الألوهية، ورفع للإنسان لنفسه من مقام المخلوق إلى مقام الخالق الذي يدرك قصده على وجه التحديد.

ينتقل مباشرة إلى سؤال العَمَل (ماذا يجب عليّ أن أفعل؟) عن طريق أخذه بالأسباب والسنن الكونية لمواجهة الحدث الكونيّ والسيطرة عليه وتقليل ضرره، والحدّ من انتشاره، والسعي بالبحث العلميّ والسلوك العَمَليّ، ولا ينشغل بالتأويل أو الانتظار، وهو من مقاصد الرسول الكريم في حديثه: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"(31).

مهما أتاه ما يحبّ أو حلّ عليه ما يكره فعليه دائما أن يسأل الله خير الأمر ويستعيذَ من شرّه، وأن يتضرّع إلى الله بالدعاء لكشف الغمّ أو لاستدامة النعم بالشكر والحمد.

محمود أبو عادي