الخط العربي.. كيف صنعت الأحرف فنا؟

11 يوليو, 2020 - 16:29

في مجتمع وليد حديث عهد بدين جديد يحمل في طياته نظاما اجتماعيا بديلا يمحو قيما ويُثبت أخرى، ويستبدل قيما بقيم، ورؤى برؤى، وتوجهات بتوجهات، يقوّض مفاهيم ليطلق العنان لغيرها، ويستحدث ما لم يكن عند العرب من قبل، حمل هذا الدين صياغة للمجتمع برمته، وعلى رأس ما استحدثه أو جلبه هو نظرته شديدة الخصوصية للفن.

لم يعرف المجتمع القديم من الفنون غير فن القول والخطابة، ولم يعرف له فنا بصريا يُذكر، إضافة إلى رأي الدين الجديد في التصوير البصري بالأساس والخشية على المجتمع الجديد أن يجلب لنفسه ما يُعيده إلى تقديس الصور والأوثان. وباتساع رقعة الأراضي الإسلامية والتفاعل الحضاري والثقافي مع الأمم الأخرى، واجهت الرؤية الجمالية الإسلامية الغضة رؤى جمالية عتيقة وطيدة مثل المذهب الهيليني وتماثيل الإغريق العظيمة، وأخرى معاصرة مثل الهيلينة المسيحية المعاصرة المتجهة للتجسيد، فمال الفن الإسلامي إلى التجريد كوجهة بديلة عن التجسيد (1)، فقد كان التجريد هو الأقدر على التعبير الفني الذي تتقبله العقيدة الإسلامية، والتجريد هنا هو اعتماد الفن على أشكال ونماذج لا تشبه المشخصات والمرئيات بصورتها الطبيعية الواقعية، وكما يذكر إسماعيل راجي الفاروقي:"

ومضى الفنان العربي يستحضر أدواته من أحرف عربية يطوّعها ويبتكر في تطوير أشكالها إلى زخارف ونقوش تتعانق وتنفصل بحسب ما يريد إيصاله، وكان الفن من المنظور الإسلامي ليس دعويا يتعبد به أو إليه، إنما ذو غرض نفعي؛ يزين أدوات الاستخدام اليومي من فخار وصحون وجدران وأثاث ليُضفي الجمال على الحياة اليومية، فيظل نمط الحياة بسيطا لكنه لا يخلو من الجمال (3). وكان ذلك الاحتفاء بالكلمة المكتوبة جديدا على العصر ولم يعهد من قبل، ويقول الفاروقي في هذا الصدد: "لا نجد بين مَن ينتمون إلى تلك الثقافات، أي شعوب ما بين النهرين، والعبرانيون، والهندوكيون، بما في ذلك العرب أنفسهم، مَن حاول اكتشاف القيمة الجمالية للكلمة المرئية، فالكتابة كانت ولا تزال في الغالب عملية فجة، ولا يتركز حولها أي اهتمام جمالي في ثقافات العالم" (4). ومن هنا نستعرض في هذا التقرير كيف عبّرت الأحرف عن نفسها كفن أصيل يمتلك مقوماته الخاصة؟

كانت الأحرف العربية الحالية معروفة في شبه جزيرة العرب قبل الإسلام، وقد كُتبت ودُوِّنت وتراسل بها العرب أو كتبوا بها المواثيق، غير أن الخط الذي استعملوه كان خطا موزونا* يُقال عنه "خط الجزم" أو الخط المكي، وهو خط هندسي منظم (5)، لم يُعرف في المدينة ولا خارج مكة بشكل عام حتى افتدى أسرى بدر أنفسهم بتعليم الأسير لعشرة من المسلمين الكتابة بذلك الخط.

وهكذا انتقل ذلك الخط من مكة إلى المدينة حتى عصر الخليفة عثمان حين أراد كتابة المصحف فاستخدم لكتابته الخط ذاته، وانطلق الخط المكي يجوب الأمصار بين دفتي المصحف وأسبغ على هذا الخط لفظ "خط المصاحف". بدأت رقعة الإسلام تتسع شيئا فشيئا، ومضى معها فن الخط يدخل بلدا بشكل فيخرج بشكل آخر ويُنسب للبلد.

وفي الحيرة ظهر من خط المصاحف ما يُعرف بالخط الكوفي حتى قبل عمارة الكوفة ذاتها، وهو خط يابس حاد الزوايا فيه صرامة وقوة وجمال، خط غير منقوط لكن وضوحه يُفسِّره، وكان هو الأنسب للاستخدام المعماري حتى إنه قد زيّن المحاريب والمنابر والمصاحف والنقود، ويظهر في نقوش مسجد قبة الصخرة وحجارة الطريق، وتفرّع الخط الكوفي إلى عدة أفرع أخرى تُنسب لبلدان أو لدول، فهو "الكوفي والشامي والبغدادي والموصلي والمغربي" أو الكوفي "الفاطمي والأيوبي والحديث".

ومن الكوفي اليابس إلى الكوفي المرؤوس* في سامراء ومسجدها الكبير، وجوامع اليمن في القرن الثاني والثالث الهجري، وهو خط له رأس على هامات حروفه الشامخة (6)، إلى الكوفي المورق أو المزهر، وهو الخط الكوفي متصلا بأشكال نباتية أو أزهار، وظهر أول ما ظهر في مصر في القرن الثاني الهجري، وبلغ أوجه في مصر الفاطمية لينتقل منها إلى العالم الإسلامي كله.

ومن الكوفي المورق إلى الكوفي المزخرف، وهو المكتوب على خلفية تغطيها الزخارف النباتية التوريقية (ذات الأوراق) مثل تلك المنقوشة على جدران مسجد السلطان حسن، إلى الكوفي المضفور المصنوع من تضفير الأحرف وتشابكها، وقد ظهر في قونية وفي قصر الحمراء وفي الجامع الكبير في الموصل. وكان يُعرَف كل نوع خط من النظر إليه، فكوفي غرناطة أكثر رقة وتنميقا من الكوفي البسيط، وإن كانت كل هذه الخطوط من أصل واحد فإن كلًّا منها يترك في النفس أثرا مختلفا يناسب طبيعة حقبته التاريخية، فما كُتب في أوقات بدايات تكوين الحضارة يختلف عما كُتب في أوقات الرخاء.

توارى الخط الكوفي في الحياة اليومية البسيطة نظرا لصعوبة استخدامه في الأغراض اليومية، فنشأ خط آخر هو الثلث، وتفرع عن الثلث نسخ، فمحقق، فريحان، فطواقي، فرقاع، ولما كان أبسط هذه الخطوط هو الرقاع (الرقعة)، إذ يسهل تعلمه وضبطه وقلة الخطأ فيه، اتخذته الدولة العثمانية خطا رسميا لموظفيها، وهو خط جامد يابس لا انحناء فيه ولا دوران، وكأنه يخبر قارئه ألّا مجال إلا لطاعة الأمر المكتوب به، واستُنسخ من خط الرقعة الخط الديواني وأُطلق عليه رقعة الباب العالي، حيث استخدمه السلطان في المراسلات السلطانية، وهو خط يتميز بالحيوية والرشاقة، خط مبسوط مرتخٍ طيّع.

أما الخليفة العباسي فقد اخترع له خطا خاصا هو خط الطومار ليستخدمه علامة أو ختما على المراسلات الصادرة باسمه، وهو خط أكبر من الثلث وأوضح منه، وتحول الطومار إلى طغراء السلطان العثماني يمهر به توقيعه على رسائله وفرماناته السلطانية.

لم يقف الخط العربي عند حد نقش جملة وزخرفتها، أو استخدام الحروف ذاتها كجزء من تكوين فني لطائر أو حصان، أو غير ذلك من الصور والأشكال، بل حوى الفن ذاته على مقومات اعتباره فنا تشكيليا مستقلا؛ يتمتع بمرونة أحرفه وإمكانية تطويعها لخدمة غرض فني، علاوة على اتصالها وما يمتاز به الخط من المد والقصر والاتكاء والأرداف والإرسال والقطع (8).

ومن هذه المقومات التشكيلية المد أو الامتداد الرأسي، حيث يستطيع الخطاط أن يتحكم في هذا الامتداد طولا يُوحي بالعظمة والشموخ، أو قصرا يوحي بالضآلة والصغر والبسط، أو الامتداد الأفقي وله أحرفه التي يُوحي بسطها بالسعة والتوازن والاستقرار (9)، والتدوير وهو تقويس الحرف في صورة هلالية، وتنوُّع أشكال الهلال وتداخلها، والمطاطية التي تتجلّى في قابلية الحرف في زيادة حجمه وطوله وتقويسه واستدارته، فيتحكم الفنان في علو الأحرف وهبوطها أو شد الأحرف وارتخائها.

كما تقبل الأحرف ضغطها وتجميع أجزائها كما في الخط المجوهر، أو تزويتها وكتابتها في أشكال هندسية مستطيلة أو مربعة كما في الكوفي اليابس، أو تشابك أجزائها وتداخلها مثل خط الثلث والديواني والكوفي المضفر، علاوة على تعدد أشكال رسم الحرف في اللوحة الواحدة وضمن نمط الخط ذاته، وهو ما يُضفي ثراء وحيوية على العمل الفني، ومن الجدير بالذكر أن الخطاطين قد تباروا وتنافسوا حتى كتبوا لفظ الجلالة بألف صورة مختلفة مستعينين بالخط الكوفي وحده دون غيره من الخطوط. ويشارك الخط العربي الفن التشكيلي العناصر ذاتها مثل النقطة والخط والمساحة واللون والملمس والظل والنور (10).

نُقِشَت لوحات الخط العربي على كل الخامات المتاحة تقريبا من الجلد والخشب والفخار والحديد والنحاس والفسيفساء والقماش والسجاد وغيرها، كما لم يكن مقتصرا على فئة نخبوية معينة، بل كان فنا يحوزه الجميع ويفهمه بسيطهم ومثقفهم سواء بسواء، وأنتج فن الخط فنونا أخرى كفن الزخرفة والأرابيسك والمعشقات وفن المفروكة* والتذهيب* (11).

ومن أشهر التكوينات الخطية هو تكوين الفنان العثماني مصطفى راقم في لوحة "لا حول ولا قوة إلا بالله"، حيث وضع اللاءات الثلاثة في قلب التكوين وأدخل الحروف المدورة أحده في بطن الآخر (12)، ووضع اسم الجلالة في أعلى اللوحة ليُضفي قوة وسيطرة وأن تمام الحول والقوة بيد الله.

وتظل عبارة "لا غالب إلا الله" من أشهر ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن تداخل الخط والعمارة، وهي العبارة المنقوشة على جدران قصر الحمراء بالأندلس قديما، وقد أضاف الخطاط زخارف تُشبه الحروف الكوفية لكنها تُعادل ثلاثة أضعاف حجم العبارة، وكأن العبارة نفسها تشي أن الناظر إليها مغلوب وألّا غالب إلا الله. الخط العربي خط منسوب؛ أي مُقاس بطريقة هندسية هي أن كل حرف يتراوح بين عددين من النقط، فلا يقل عن الحد الأدنى ولا يزيد على الحد الأقصى، فمثلا ميزان حرف الألف هو بين ثلاث إلى ست نقاط. وكما أن لكل حرف مخرجا معينا يعطيه صوته المألوف، فلكل حرف مكتوب شخصية معينة ذات مدلول روحي أو معنى صوفي وفقا لما نظر إليه الخطاطون الأوائل (12).

كما يُسيطر التناغم بين الكتلة والفراغ على التكوينات الخطية، ونظرا لكراهة أن يكون التكوين فارغا لزم كتابة التشكيل على بعض الخطوط كخط النسخ، ولذا صُنعت الزخارف. وامتلك الفنان رؤيته الخاصة، فهو حين يكتب جملة ما يترك بصمته أو انطباعه أو رأيه الشخصي فيما كتب دون أن ينطق بذلك، بل تنطق لوحته، فيتعمّد أن يترك في نفس الرائي انطباعا ما بمجرد النظر إلى تكوينه حتى قبل أن يقرأ ما كتب تفصيلا، فمثلا ذهب البعض إلى استخدام تقنية ضغط الأحرف وتجميعها حين كتابة آية تتضمن العذاب الأخروي، وبسط الأحرف واتساعها حين الحديث عن نعيم الآخرة، كما شملت وصية النبي (14) لكاتبه أن يمد نون الرحمن في البسملة، ومنذ حينها ظلت البسملة تكتب بمد هذه النون لتُوحي باتساع الرحمة وشمولها للجميع.

نُظِر إلى الخط العربي على أنه فن شريف استمد قداسته من كتابته للقرآن، ولم تقف الفِرَق الصوفية عن حد تبجيله وحسب، بل استخدموا أساليب معينة للدلالة على حالة الوجد والسمو الروحي، فاستخدموا كتابات مختلطة بالرسم لجلاء المعنى، وأسبغوا على الأحرف معنى باطنيا يُشير إليه ظاهر الحرف (15). فالألف يكتسب شموخه من لفظ الجلالة، والأحرف دائرية لأن الكون في دوران مستمر، ويمثل دوران الحرف دوران المسلم حول الكعبة، ومعظم الأحرف يتخذ شكل المثلث وهو بذلك متخذ لوضع السجود.

أما المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي فيرى فلسفة الخط كامنة في أسباب الغزو الثقافي للأمم المغلوبة فيقول: "لقد انطلق الخط العربي الذي كُتِب به القرآن غازيا ومعلما مع الجيوش الفاتحة إلى الممالك المجاورة والبعيدة، وأينما حلّ أباد خطوط الأمم المغلوبة، فكتب به الإيرانيون لغتهم الفارسية، وكتب به الهنود لغة الأوردو، كما كتب به العثمانيون لغتهم التركية".

في الواقع كان الخط فنا ابن بيئته إلى حدٍّ بعيد، تأثّر بظروف البيئة وتغيراتها وأثّر فيها وأضفى عليها مسحة من الجمال، خشن ورقّ كما خشنت الحياة ولانت، كان هو الخط ذاته بالقواعد ذاتها ربما، لكنه يختلف من مسجد فاطمي إلى قصر أندلسي، ومن سبيل مملوكي إلى ديوان السلطان العثماني، كان طيّعا على كل حال لكنه ترك رأيا كذلك.

 

الجزيرة نت