أشعر بالمهانة حين يوصف أبناء جيلنا ب "التفاهة"، كلمة "التفاهة" مشتقة من الفعل (تَفِهَ) أي نَقصَ، النقص الذي يعانيه أبناء هذا الجيل هو نقص الشعور بالقيمة، لذلك يلجأ للتفاهة لكونها السبيل الأقصر والأسهل للشعور بالقيمة وتوهم المشاركة الاجتماعية، ليس هذا فحسب هذا الجيل يعيش بين انعدام الهوية الذي تجعله منتمياً لدين أو حركة أو جماعة فيكون هذا الانتماء دافعاً له للإنجاز، وبين القيمة التي يجدها في عوالمه الافتراضية.
إذن هذا التحليل لما يواجه أبناء هذا الجيل يقودنا للاعتراف بأننا نواجه أزمة تفاهة حقيقة لابد من التصدي لها، فإذا كنا نؤمن بسنة التدافع وننادي بالحق الذي يدفع الباطل، فمهمتنا هي دفع التفاهة وعدم الاكتفاء بطرح المفاهيم بأسلوب فلسفي ونخبوي تحت بند أن العوام يتصفون ب "التفاهة" التي ينبغي الترفع عنها، التنظير مطلوب، التفكير النخبوي والعميق مطلوب، الدراسات المتخصصة والاستراتيجية مطلوبة، ولكن كيف ستفهم العوام؟!
بالرغم من الاعتراف بوجود الأزمة، نلاحظ ظهور تعطش الكثير من العوام للمعرفة وبحث دؤوب عن الظهور بمظهر المثقف، ولهذا يجب علينا توظيف وتوجيه هذا التعطش والبحث والأخذ بزمام المبادرة ومحاولة تنمية الثروة البشرية المتمثلة في الشباب حتى يستمر تقدمهم في الحياة على نحو يحافظ على روح الحضارة في مجتمعاتنا ويمنعهم من السقوط في دوامة المادة المهلكة، وهذا يتم من خلال من إيجاد نموذج المثقف المشتبك أو مثقف الشارع أو المثقف العضوي، هذا النموذج للمثقف هو النموذج المطلوب في المرحلة الراهنة، ذلك أن مثقف الشارع العضوي لا يشعر بهوّة "استعلائية" بينه وبين المجتمع ، يخالط المجتمع ، ويتحدث لغته، فهو كما يصفه أنطونيو غرامشي الحامل لهموم كل الطبقات وكل الجماهير وكل الفقراء والمحرومين والكادحين، وعليه، فإن المثقف الحقيقي هو المثقف العضوي الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته، أي مثقف لا يتحسس آلام شعبه لا يستحق لقب المثقف حتى وإن كان يحمل أرقى الشهادات الجامعية.
المثقف قبل غيره يبحث عن الحقيقة أو الحكمة التي هي ضالة المؤمن، فلا يسعه التخلي عن دوره الطبيعي. فهو يمثل مرجعية مهمة لا تستقيم سلطة محاسبة أنظمة الدولة السياسية والاقتصادية وأنظمة المجتمع الاجتماعية دون تشغليها
نموذج المثقف العضوي قادر على خلق نقطة التقاء بين العوام الغارقين في التفاهة والنخبة التي تعجز عن توجيه الجماهير والأخذ بيدهم، وذلك من خلال توجيه الجماهير وتقديم خطاب قادر على جذبهم وتهيئتهم للتغيير، ذلك أن كلمة من روح القدس، وتسهم إلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، فهي ذات وقع شديد في ضمير الفرد، إذ تدخل إلى سويداء قلبه فتستقر معانيها فيه لتحوله من "تافه" إلى إنسان ذي مبدأ ورسالة، رب سائل يسأل: بأي حق يقرر المثقفين ما يجب وما لا يجب؟!، بأي حق يتندب المثقفين أنفسهم لممارسة دور القاضي على الدولة والمجتمع؟!
نجيب أن المثقف قبل غيره يبحث عن الحقيقة أو الحكمة التي هي ضالة المؤمن، فلا يسعه التخلي عن دوره الطبيعي. فهو يمثل مرجعية مهمة لا تستقيم سلطة محاسبة أنظمة الدولة السياسية والاقتصادية وأنظمة المجتمع الاجتماعية دون تشغليها، إنه يخوض مغامرة جرئية؛ مغامرة نقد تأخر وتخلف الشعوب التي قد تكون ضحية نفسها قبل أن تكون ضيحة السلطة، ضحية تخلفها الثقافي. من هنا جاءت مهمة المثقف بصفته رسول اجتماعي ينتدبه التاريخ وموقعه في المجتمع لحمل رسالة التغيير والمشاركة مع الناس في تحقيقه.
دور المثقف ليس تفسير العالم وإنما تغييره، فالفكرة عندما تتملك الإنسان، تقرر له وظيفة اجتماعية؛ هذه الوظيفة شكل من أشكال الحراك الذي يُفترض أن المثقف يقوم به، ذلك أن وظيفة المثقف ليست فكرية ومعرفية فقط، بل اجتماعية أيضاً، الوظيفة التي وصفها الكاتب عبد الإله بلقزيز بأنها وظيفة: "الانشغال بالقضايا العامة، والمشاركة فيها بالرأي والموقف، والانحياز للطبقات الاجتماعية الكادحة أو المهمشة، والنضال ضد اللامساواة والقمع. لا تكتمل صورة المثقف، بل لا يكون أهلاً للحمل الصفة هذه، ما لم يستكمل وظيفته المعرفية بهذه الوظيفة الاجتماعية التي تُخرجه من فرديته إلى كينونة اجتماعية أعلى يُدرك فيها صلات المعرفة بالاجتماع المدني والسياسي. بهذه الوظيفة المُضافة يولَدُ معنى المثقف ولادة جديدة تخرّج به من لحظة «أنا أفكر» إلى لحظة «أنا أمارس»"، الوظيفة الاجتماعية للمثقف تجعله وسيطاً بين المعرفة والجماهير، حينئذ تتحول المعرفة والأفكار إلى قوة مادية عندما تتملكها الجماهير.
طبيبة وكاتبة