في زمن الكورونا.. أيهما أهم الأمن أم الحرية؟

30 أبريل, 2020 - 08:08

تثير جائحة كورونا وما رافقها من فرض لحظر التجول وقوانين الطوارئ ونزول لقوى الأمن والجيش إلى الشوارع حتى في بعض الدول الديمقراطية تساؤلات حول إذا ما كانت سلطة الدولة ستتوسع بفعل هذه الجائحة لتقيد الحريات تحت ذريعة مكافحة الوباء والحفاظ على الأمن، وعلى الرغم من أن بعض هذه الإجراءات معقولة بل وربما مطلوبة في مثل هذه الظروف الاستثنائية، إلا أن البعض أثار مخاوف مشروعة من أن تتوسع الرقابة على المجتمع ويستمر تقييد الحريات حتى بعد زوال هذه المحنة، خصوصاً أن البعض قد بدأ يسوق للنموذج الصيني على أنه يمثل النموذج الأفضل في احتواء الوباء ويعزون ذلك إلى صرامة الإجراءات لتي اتبعتها الحكومة الصينية.
ويستنتج هؤلاء أن نموذج الحكم السلطوي في الصين والذي يفرض مستوى عالي من الرقابة الحكومية على المواطنين قد ساعدها على احتواء الوباء فيما فشلت بعض الدول الغربية في تحقيق نتائج مماثلة بسبب طبيعة أنظمتها الديمقراطية والتي تعلي من شأن الحرية الفردية، ويغفل هؤلاء عن حقيقة مفادها أن تصرفات النظام الشمولي في الصين عند ظهور الوباء والتي كممت بموجبها الأفواه وتسترت على الكثير من الحقائق قد ساهمت في انتشار الوباء، كما يغفل البعض عن أمثلة لدول ديمقراطية مجاورة للصين أظهرت نجاحاً ملحوظاً في احتواء الوباء مثل كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة ونيوزيلندا.
تعيدنا مثل هذه المقارنات إلى سؤال فلسفي مهم حول أيهما أهم: الأمن أم الحرية؟ وهل يمكن التخلي عن أحدهما لصالح الآخر؟ يمكننا أن نزعم بأن استقرار الدول وازدهارها يعتمد في بعض جوانبه على تحقيق توازن دقيق بين عنصري الأمن والحرية، فإذا اختل التوازن لصالح أحد العنصرين اختل توازن الدولة والمجتمع، إذ أن تغليب عنصر الأمن على حساب الحرية يدفع الدولة في طريق الاستبداد والقمع لتصبح في مواجهة -إن عاجلاً أو آجلاً- مع المجتمع الذي يرفض التخلي عن حريته بسهولة. أما إذا اختل التوازن لصالح الحرية على حساب الأمن، فإن الدولة تغدو ضعيفة ويصبح المجتمع مهدداً بالانزلاق إلى حالة من الفوضى أو التفكك.

لا نفترض هنا بأن التوازن بين طرفي المعادلة ينبغي أن يكون جامداً ثابتاً، فواقع الحال يقتضي أن يكون مثل هذا التوازن ديناميكياً مرناً خصوصاً في بعض الظروف الاستثنائية، كحالة الكوارث العامة التي قد تقتضي تقييد بعض الحريات مؤقتاً وبشكلٍ مدروس حفظاً للأمن والسلامة العامة، وبشكل يمنع استغلال الظروف لتحقيق مصالح فئات معينة، مع الحذر من تغليب أحد عنصري المعادلة على الآخر مما قد يؤدي في نهاية الأمر إلى خسارة العنصرين معاً: الأمن والحرية.
فالدولة التي تنعدم فيها الحرية تحت ذريعة الحفاظ على الأمن هي دولة استبدادية قمعية بالضرورة، لأنها تواجه بالقوة أحد أهم حقوق الإنسان وخصائص المجتمعات البشرية وهي الحرية، ولا غرو أن ذلك لا يتم لها إلا باستخدام أساليب الرعب والتخويف وبث الذعر في قلوب الناس وذلك يتناقض من حيث الجوهر مع فكرة الأمن، فالأمن في مثل هذه الدول هو أمنٌ ظاهري زائف، ولا عجب أن المواطن في بعض هذه الدول لا يشعر بالأمن إلا عندما يغيب رجل الأمن. والاستقرار في مثل هذه الدول يكون في الغالب ظاهرياً، إذ أن جذوة الغضب يزداد استعارها في قلب المجتمع كلما أوغلت الدولة في قمعها حتى يبلغ الأمر في لحظة ما حد الإنفجار الذي قد تحرق نيرانه الدولة أو المجتمع أو كليهما معاً.
من ناحية أخرى فإن تغليب عنصر الحرية على عنصر الأمن قد ينتج عنه حالة من الفوضى، والتي قد تتحول في غياب الدولة إلى ما يشبه شريعة الغاب التي يغلب فيها القوي على الضعيف دونما وازع من سلطة أو قانون، وبالتالي يصبح انعدام الأمن في واقع الحال مقيداً للحرية، إذ لا حرية في هذه الحال بغير قوة، وحتى القوي يبقى متوجساً غير مطمئن، إذ تكون حريته في مهب الريح عندما تشيع الفوضى، ولا يأمن أن يظهر من خِضم الفوضى من هو أقوى منه ليسلبه حريته.
يمكننا طرح المسألة بمصطلحات أخرى أو النظر إليها من زاوية تحقيق التوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية، وخصوصاً أن الفردية بطبيعتها تعلي من شأن الحرية، وأن الجماعة يشغلها تحقيق أمنها. إن سحق الفرد لتحقيق مصلحة المجتمع يحمل في داخله تناقضاً ذاتياً، إذ أن الفرد هو اللبِنة الأساسية في بنية المجتمع الذي قد يُنظر إليه على أنه مجموعة من الأفراد الذين تربطهم معاً علاقات اجتماعية لها أوجهها الثقافية والسياسية والاقتصادية والتي تتجلى في الغالب على شكل مؤسسات، ولا يمكن أن نتخيل هذا البناء (المجتمع) قوياً متماسكاً إذا تم سحق لبِناته وقواعده الأساسية (الأفراد). إن ما يُبقي على التماسك الظاهري لمثل هذا المجتمع هو القوة القاهرة، وعندما تتراخى قبضة هذه القوة مع مرور الزمن لأسبابٍ داخلية أو خارجية، فإن حقيقة المجتمع الذي سُحق أفراده قد تظهر في هيئة كومة من الرُكام.
أما تغليب مصلحة الفرد دون مراعاة لمصلحة الجماعة فلا يخلو من تناقضٍ أيضاً، إذ أنه ينتهي إلى تغليب مصالح أفرادٍ معينين أو طبقةٍ اجتماعية بعينها على حساب أفراد آخرين، وبالتالي يصبح الحديث عن "المصلحة الفردية" مضللاً، لأنها في واقع الأمر مصلحة أفرادٍ معينين وليست "المصلحة الفردية" بـ "ال التعريف" التي تحمل معنى العموم دون اختصاصها بفردٍ أو طبقة معينة. ويحضرني هنا هذا القول للإمام محمد عبده "من أراد أن يخدم نفسه وجب عليه أن يخدم العامة، لاندراج المصلحة الخاصة في المصلحة العامة، فإذا ضاعت المصلحة العامة ضاعت الخاصة أيضا، وإذا حفظت الأولى حفظت الثانية".
خلاصة الأمر أن العلاقة تبادلية بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية بحيث يتعذر تحقق إحداهما دون الأخرى، وأن المجتمع الإنساني لا يقوم بدون هاتين الدعامتين: الأمن والحرية، ولا يمكن التخلي عن أحدهما لصالح الآخر وإنما ينبغي تحقيق التوازن بينهما.

نور الدين الرفاعي

طبيب ومدون