المتتبع للحركة السياسية والاقتصادية الصينية يرى بوضوح وجود استراتيجيات عميقة ومدروسة لبسط النفوذ السياسي والاقتصادي الصيني بشكل مغاير للطريقة الأمريكية بنفس بعيد واستراتيجيات واقعية من خلال مشاريع عملاقة مولتها أو أدارتها الصين على الصعيد الدولي ليصبح الاقتصاد الصيني الثاني عالميا بناتج محلي يقارب من 14 ترليون دولار بنسبة نمو تجاوزت 6 بالمئة. بدأ بإحياء طريق الحرير الذي يعد أكبر مشروع للبنة التحتية في العالم والذي بدوره سيربط الصين بالأسواق المستهلكة لبضائعها مرورا بملف سياسة الديون الصينة مع الاقتصادات الناشئة التي مكنتها من بسط نفوذها الجيوسياسي على عدد كبير من المشاريع العملاقة العالمية كميناء موباسا في كينيا وميناء غوادر الباكستاني ومرفأ شيتاغونغ في بنغلادش وموانئ جيبوتي بالإضافة إلى عدد كبير من دول القارة السمراء ليس هذا وحسب بل إن بعض التقارير العسكرية أشارت أن ربع الأسلحة المتوفرة في أفريقيا منشئها الصين والذي يعكس بدوره نفوذ الصين المتزايد.
وكمكمل لكل هذه الاستراتيجيات اتبعت الصين في استراتيجيتها الخارجية نشر اللغة والحضارة الصينية في كل دول العالم من خلال المنح الدراسية الحكومية والمراكز الثقافية المنتشرة حول العالم، كل هذا يبرر تسارع الكثير من الدول التي لطالما كانت حليفا قويا للولايات المتحدة على عقد شراكات طويلة الأمد مع الحكومة الصينية وفتح قنوات اتصال مباشرة عالية المستوى لتعزيز هذه الشراكات حرب بلا أسلحة. من المعروف بأن القرار السياسي والاقتصادي الأمريكي دائما ما كان قرار مؤسسي لا يتاثر بالآراء الشخصية للجهة التنفيذية وبمراجعة بعض تقارير المؤسسات المصرفية العالمية وحتى الأمريكية منها نلاحظ بأن التوقعات الاقتصادية كانت تشير إلى تراجع الهيمنة الأمريكية الاقتصادية لصالح الصين واقتصادات ناشئة مثل الهند في نهاية العقد الحالي وضهور قوى اقتصادية جديدة مثل البرازيل وفيتنام والمكسيك وحتى نيجيريا بل إن بعض هذه التقارير يعود لأكثر من عشرين عاما كل هذا يشير أن الرئيس ترمب لم يكن من افتعل الحرب غير المعلنة مع الصين بل أنه كان مجبرا على التعامل معها.
تمثلت بعض مقدمات الحرب البيضاء في محاولة ضرب التعاملات بالعملة الصينية اليوان كبديل محتمل وقوي للتعاملات في الدولار حيث يستخدام الدولار في أكثر من 85 بالمائة من العقود التجارية على مستوى العالم ليس هذا فحسب بل يستحوذ الدولار على ثلثي الاحتياطي النقدي الأجنبي العالمي حيث أدرك الصين أن أمريكا كانت وما تزال تعتمد في حل أزماتها الاقتصادية على السيولة النقدية حيث تطبع ما تشاء لتسد اجتياجاتها وخططها معتمدة على مكانة الدولار في الاحتياطي العالمي والتعاملات التجارة بالإضافة إلى ربط تعاملات النفط بالدولار بما سيشكل الحاجز الصلب لمكافحة تضخم العملة الناتج عن طباعة الدولار.
ونلاحظ في السنوات القليلة الماضية أن الصين أدركت هذه المعادلة حيث قابلتها باجرئات تعزز ثقة العالم بالعملة الصينية في التعاملات التجارية والنفطية بل واستخدام اليوان بشكل كبير وموسع في احتياطي النقد في الكثير من دول العالم. وعلى الجانب الآخر استخدمت الولايات المتحدة ملفات متعددة بما يخدم مصالحها التفاوضية والاقتصادية أهمها الأقليات وحقوق الإنسان والملكية الفكرية وحرب الناقلات في منطقة الخليج للضغط على الصين للتفاوض وتقديم تنازلات وأضافت لها مؤخرا الحرب الضريبة والتضييق على الشركات الصينية العملاقة كشركة هواوي في محاولة لكبح توسعها وسيطرتها على الأسواق العالمية وجعل المتجات المحلية أكثر منافسة على الرغم من الخسائر الكبيرة التي انتجته هذه الحرب الضريبة على الشركات الأمريكية.
متلازمة الاقتصاد التنفسية كورونا
لو عدنا إلى الوراء وتحديدا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لوجدنا أن سبب السيطرة الاقتصادية والسياسية الأمريكية يعود لخروجها من الحرب العالمية الثانية باقتصاد قوي مقارنة بالدول المشاركة في الحرب التي حولت اقتصادها بشكل كامل إلى اقتصاد حربي بحت بينما سعت الولايات المتحدة إلى بناء اقتصاد عسكري موازي لاقتصادها المدني ليس هذا وحسب بل إن دخول أمريكا الحرب متاخرة وخروجها منتصرة وقدرة الشركات الأمريكية على انتاج وتصدير السلع الاستهلاكية والغذائية مكنها من بسط نفوذها التلقائي على العالم واعتماد الدولار كعملة أساسية لتعاملات التجارية العالمية.
ومن المعطيات الحالية نستطيع أن نستنتج أن من يخرج منتصرا من هذه الجائحة الاقتصادية الناتجة عن كورونا سيتمكن من بسط نفوذه السياسي والاقتصادي على العالم خصوصا أن الاقتصاد العالمي كان في مرحلة ما قبل الكساد حيث أن الديون العالمية بلغت أكثر من 255 تريلون دولار بينما مجموع الناتج المحلي العالمي يقارب 80 تريون دولار أي أن العالم يغرق في ديون تتعدى ثلاثة أضعاف مجموع ناتجه المحلي مما كان يبنئ بوقوع العالم بمرحلة كساد قريب يبدأ من أمريكا.
السقوط في أول امتحان
نجد اليوم أن الدول التي كانت تلوح بقدرتها على السيطرة العسكرية على العالم في غضون أيام تفشل في توفير الاحتياج المحلي من أسرة المستشفيات والمستهلكات كلمعقمات والأقنعة الواقية وأجهزة التنفس وحتى ورق الحمام لتسقط الحضارة بمفهومها القيمي في دول لطالما تغنت برفاهية وثقافة ورقي شعبها
وعلى النقيض من ذلك نشاهد الآن حكومات دول صغيرة تقدم لشعبها كل ما لديها للمحافظة على حياتهم وممتلكاتهم وتوفير كل موارد الدولة لهذه الغاية كالكويت وقطر وسائر دول الخليج بالإضافة إلى دول تعاني الفقر حد الإفلاس كانت سباقة في الإجرائات الحكومية للحد من انتشار المرض كالأردن وفلسطين لا بل وفتحت فنادق الخمسة نجوم لتستضيف رعاياها طيلة أيام الحجر الصحي، هذا وقد أدركت الصين بأنها أمام اختبار أخلاقي وسياسيي كبير فأختارت الوقوف بجانب الدول المتضررة ففي مقابل إغلاق أمريكا لحركة الطيران من أيطاليا وأوروبا تجاه الولايات المتحدة قامة الصين بتقديم المعونات الصحية لأيطاليا وصربيا التي أدارت أوروبا لهم ظهرها حيث تستغل الصين قدرتها الهائلة على تصنيع المستهلكات الطبية لتحسن توظيفها في بناء علاقات سياسية وشعبية مع الدول الأخرى.
كرة الثلج والحلقة الخبيثة
تتراوح التقديرات الأولية إلى أن الخسائر المتوقعه للاقتصاد العالمي إذا لم تتم السيطرة على الوباء في الفترة القريبة إلى ما قد يفوق 5 ترليون دولار بالإضافة إلى خسارة أكثر من 100 مليون إنسان لوظائفهم حول العالم. إضافة إلى المشكلات الاقتصادية يجب دق ناقوس الخطر لنتائج متوقعة أكثر أهمية وخطورة من الاقتصاد تتمثل في الأمن الغذائي حيث ستسعى قريبا كل الدول على المحافظة على مخزونها من المواد الغذائية بكافة الطرق وقد تصل أحيانا إلى الطرق العسكرية كل هذا سيزيد المشكلة تعقيدا إذا لم تقم الدول جميعها بالتعاون في ما بينها وأدراكها أن العالم يسير الآن في مرحة اختبار كبير أما أن نشارك جميعا للتصدي للتبعات الاقتصادية والاجتماعية الحالية أو أن تتصرف الدول بانانية وفق مصالحها قصيرة الأمد لنجد أنفسنا جميعا في وضع لا يمكن إصلاحه.
ما بعد كورونا
التحليل المبدئي للتبعات الاقتصادية للجائحة وتعامل الدول معها يشير أن أمريكا وأوروبا ستكون الخاسر الأكبر لهذه الجاحة وإذا ما استمرت الصين بالحد من انتشار المرض في مقابل فقدان السيطرة عليه في الدول الأخرى سيخرج الصين من الأزمة ليكونون الخاسر الفائز حيث ستخرج منه كما خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب العالمية الثانية بصفتها الأقل تضررا والأقوى على الانتاج مما سيؤهلها لكتابة حقبة اقتصادية وسياسية جديدة وهذا على الاغلب سيجعل فرص حدوث مناوشات أمريكية صينية وحتى حرب عسكرية فعلية في بحر الصين ليس بالاحتمال البعيد. أما على صعيد الوحدة الأوروبية فأغلب التقديرات تشر إلى تفكك الاتحاد فيما إذا لم يتم السيطرة على المرض قريبا خصوصا أن الاتحاد سقط في أول مواجهة له حين أدارت كل الدول الأوروبية ضهرها للأخرى وانغمست في تغطية فشلها الذريع على قطاع الصحة.
وعلى صعيد الدول الأخرى سيزيد الانكفاء على الذات وستركز الدول على المشاكل الداخلية ولن تعود المشاكل الدولية ذات أهمية كبيرة لمعضم الدول وسيصيغ المنتصر ملامح القرن الواحد والعشرين وستختفي أو تخفت أهمية مفاهيم كثيرة خلال العقد الحالي أهمها العولمة الأمم المتحدة البنك الدولي النظام الرئس مالي الحالي بل وحتى النظام الديمقراطي بشكله الحالي.