بينما يقترب العلماء من اكتشاف لقاح فعال ضد فيروس كورونا، يتوقع آخرون أن تتواصل آثار الفيروس على السلوك البشري لعدة سنوات بعد الشفاء منه. ومع دخول بعض التلاقيح مرحلة الاختبار على البشر في الولايات المتحدة وألمانيا والصين، بات من المؤكد أن أشهرا قليلة تفصلنا عن نهاية كابوس كورونا، لكن إلى أن نصل إلى تلك المرحلة ستكون هناك أشياء كثيرة قد تغيرت ضمن عاداتنا اليومية.
تواصل أقل بين البشر.. إتصال أكثر مع الآلة
رغم أن العلماء لا زالوا لم يتوصلوا إلى حد هذه اللحظة لفهم كامل وصحيح لسلوك كورونا، إلا أنهم يتفقون أن الفيروس ينتقل أساسا عن طريق التواصل بين البشر، وهو ما دفع الدول التي بلغ فيها مستوى تهديد الفيروس المرحلة الثالثة لتبني قرارات جريئة تهدف للحد من التواصل بين البشر، من بينها منع التجمعات في المساجد والمقاهي وحفلات الزفاف وغيرها، بينما تبنت الدول التي لا زالت في المستويين الأول والثاني قرارات مماثلة لكنها أقل حدة، مثل "التباعد الاجتماعي" الذي يعني الحفاظ على مسافة اجتماعية في المعاملات المباشرة مع الآخرين. أما بالنسبة للنشاط الاقتصادي، فقد اتجهت عديد الشركات لخيار العمل عن بعد بهدف الحفاظ على سلامة موظفيها ومواصلة نشاطها، ومن بينها شركات عالمية مثل جوجل وإي بي أم. إن هذه الخيارات على اختلافها تعني شيئا واحدا: بشر أقل تواصلا فيما بينهم، وأكثر اتصالا بالآلة.
وفي مقال نشرته "فوكس"، تحدثت الصحيفة عن تطور كبير في عدد الأشخاص المتصلين بالإنترنت منذ انتشار الفيروس، وهو ما أدى إلى ازدهار خدمات توصيل الطعام ومنصات التسوق الإلكتروني وتطبيقات العمل عن بعد في عديد الدول. وقد يتواصل الأمر على هذه الحال لأسابيع أخرى قبل أن يتمكن العالم من السيطرة على الفيروس أو يمكن أن يستمر لأشهر قبل أن تبدأ عملية اختبار وتسويق لقاح ناجع. وليس من المستبعد أن يتحول هذا الإستثناء إلى قاعدة، خاصة بالنسبة لبعض الشركات التي يمثل العمل عن بعد بالنسبة لها فرصة لتقليص مصاريفها وتعزيز قدرتها التنافسية على العمل في ظروف استثنائية مماثلة.
خصوصية أقل ورقابة أكثر
بعد كل عملية إرهابية ترفع الدولة أمام مواطنيها شعار "الأمن مقابل الحرية". واليوم تمثل الأوبئة ذريعة أخرى تبرر من خلالها الدولة انتهاك خصوصية مجتمعاتها تحت شعار "الصحة مقابل الحرية". ومع بداية انتشار الفيروس في الصين، استعانت الدولة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي للحد من استعمال الأشخاص المصابين للنقل العمومي وتجمعهم في الأماكن العامة، وهو ما ساعد على تحديد وتحييد الحالات المشتبه بحملها للفيروس. لقد استغلت الصين حالة الهلع والخوف لتبرر التجسس على المعطيات الشخصية لمواطنيها وأجبرت الملايين منهم على الدخول في الحجر الصحي ووظفت التكنولوجيا الحديثة للتجسس على المصابين.
صحيح أن الصين أثبتت نجاعة كبيرة في الحد من انتشار الفيروس منذ ظهوره لأول مرة وذلك بشهادة منظمة الصحة العالمية، وذلك بفضل التكنولوجيا المتطورة والقرارات الجريئة بعزل مدن بأكملها، لكن هذه الإجراءات الاستثنائية تم اتخاذها لمعالجة وضع استثنائي، ومن المنطقي أن تزول بزواله، لا أن يتم تقبلها لاحقا على أنها ظروف طبيعية أو حتمية، إذ أن ذلك يعني حتما دولة أكثر سيطرة على شعوبها وتضييقا أكبر على الحريات الفردية.
إن التسويق الإيجابي للنموذج الصيني في تعامله مع فيروس كورونا يشرع لفكرة الدولة الشمولية التي يحق لها التضييق على الحريات الفردية والجماعية بهدف حماية المجتمع الذي هو أساس الدولة، تماما مثلما حدث بعد هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة. وهو ما يعني أن الصين، ودول أخرى قد تتحول إلى أنظمة أكثر سيطرة وتحكما في هامش الحريات الفردية في مجتمعاتها.
صعود القوميات المتطرفة وانحسار العولمة
كلما انتشر الوباء عالمي إلا وأدى ذلك إلى هيمنة مشاعر قوية ودائمة من الشبهة والخوف التي تؤدي بدورها إلى تطوير سلوكيات ومعتقدات مختلفة كليا عن المألوف وأحيانا متطرفة، تجعل البشر عموما أكثر عدوانية وأقل استعداد لخوض تجارب جديدة. إن فيروس كورونا ليس أول جائحة تثير الهلع والخوف بين البشر، ويقدم لنا التاريخ في نفس السياق أمثلة عديدة حول أوبئة كان لها تأثيرات مختلفة على السلوك الإنساني والنظام العالمي بعد انحسارها، من بينها الطاعون أو ما يعرف بــ"الموت الأسود" الذي ضرب أوروبا والعالم في أوائل القرن الرابع عشر، وأدى إلى موت أكثر من ثلث سكان القارة العجوز آنذاك. وقد كان لهذا الوباء تأثير كبير في إعادة بلورة ملامح النظام العالمي. ويعتقد المؤرخ الهولندي يوهان هويزنجا أن "الفترة التي أعقبت الموت الأسود في أوروبا مهّدت لنهاية العصور الوسطى". بالنسبة له، لم يكن ذلك نتيجة للانعكاسات الاقتصادية للوباء، بل نتيجة لانتشار اللاعقلنية والعنصرية وكراهية الأجانب التي ميزت تلك الحقبة.
وفي الحقيقة، يمكن الاعتقاد أن تأثير فيروس كورونا على النظام العالمي مرتبط بمدى انتشاره وحجم الخسائر البشرية والاقتصادية، والظروف العالمية التي سبقت ظهوره. ولا يمكننا تعميم المقارنة بين الطاعون الذي ضرب أوروبا قبل أكثر من 600 سنة، وجائحة كورونا التي يعاني منها العالم اليوم، لكن ليس من المستبعد أن يؤدي هذا الوباء إلى انحسار العولمة وصعود القوميات، إذ لم يخلو انتشار الفيروس من التوظيف السياسي، خاصة بالنسبة للولايات المتحدة في صراعها مع الصين، التي اتهمت غريمها الأمريكي بفبركة الفيروس، بينما يصر ترامب في خطاباته الرسمية على تسميته بـ"الفيروس الصيني". وفي صربيا، قال رئيس البلاد ألكسندر فوتشيتش إن أوروبا خذلتهم في حربهم ضد فيروس كورونا. كما شاهدنا بعد انتشار الجائحة خارج الصين موجات مختلفة من العنصرية ضد الصينيين خصوصا، وأصحاب العرق الآسيوي عموما.
كاتب ومترجم