أحلم بحاكم عربي أفلاطوني

24 فبراير, 2020 - 11:13

أحلم بحاكم عربي يقول لشعبه: حكمت عليكم بالحرية المؤبدة أحلم بحاكم عربي يحكم بمنطق القيادة والإدارة لا يمنطق التملك والوصاية، وكأن الدولة والشعب ملك خاص له، لتغدو الدولة أو الوطن مزرعته الخاصة ويغدو الشعب خدماً وعبيداً عنده.

  يقول أفلاطون: "المَلِك الحق ليس الذي يملك العبيد بل الذي يدير شؤون الأحرار"، لأن الأحرار ليسوا ملكاً لأحد، ولا قِبَل لأحد أن يمتلكهم، ولأن الحرية عدوة الديكتاتورية، لذلك رأينا أنهاراً من الدماء تسفك عند قوائم كراسي حكامنا، إذ أشهروا أسلحتهم كلما لاح لهم في الأفق شبح الحرية أو سمعوا همس الأصوات تنادي بها، فما من طاغية أو ديكتاتور يستقيم له الملك ويستتب له الأمن، ويتمكن من كرسيه إلا عندما ينجح في إقناع رعيته أنهم عبيد، وأن عبوديتهم وإدارة شؤونهم بالقبضة الحديدية والسطوة القمعية واجب لا تتم حياتهم إلا به، فلا يمكن لهم أن يعيشوا في فضاء رحب من حرية الفعل واللافعل، حرية القول واللاقول لأن هذه الحالة وحش مرعب ينذر بفوضى وخراب، وتؤدي في النهاية لسقوط الدولة وضياعها.

هذه الفكرة التي تربت عليها شعوبنا العربية بوعيها ولاوعيها، وبطريقة مباشرة وغير مباشرة، حتى صرنا نرى من يلوم بعض أشكال الحكم الديمقراطي الذي لاح طيفه بعد ثورات الربيع العربي، ويتهمه أنه شكل هزيل من أشكال الحكم، وجدير بالزوال والسقوط، وأن شعوبنا لا تفهم إلا بلغة الحديد والنار لتنضبط ولتسير على الصراط المستقيم، وليس هذا فقط بل كان شريكاً في إسقاطها وفشلها.

أحلم بحاكم من أهم صفاته "الحكمة"، فيكون حكيماً يمارس سلطته بالحكمة، فيفعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي، وليس هذا فقط بل يتصف بالحكمة التي تحدث عنها أفلاطون في جمهوريته منذ أكثر من ألفين وأربع مئة سنة إذ يقول: "وأعلى درجات الحكمة من ملك شهوته.... أما دولة الاستبداد فتكون عندما يكون الطاغية عبداً لغرائزه"، فهل تخيلنا حاكماً لا تتحكم به شهوة السلطة ولا شهوة المال؟ هل تخيلنا حاكماً يقعد على كرسيه بأمانة ويرحل بأمانة... إذ يعلم أن المناصب تُطغِي أصحابها، فلا يتمسك بمنصبه، بل يؤديه حقه، ثم يرحل فاسحاً الطريق لغيره ليقود الدولة بحكمته الجديدة، وكما قال أفلاطون: "لا ينبغي للحاكم أن يبقى في السلطة طويلاً بل يحل محله حكيم آخر لأن السلطة تفسد أعظم البشر فالتناوب على السلطة ضروري".

 أحلم بحاكم لا يتمتع بأملاك شخصية، فمن أهم صفات الحاكم عند أفلاطون: "البعد عن رأس المال فلا يحق للحاكم الملكية لأنه – هو - ملك للدولة فلا ينبغي أن تكون له أملاك خاصة"!! فلنتخيل معاً حاكماً لا يملك بيتاً ولا سيارة، ليس لديه أرصدة في البنوك لا هو ولا أحد من عائلته... بل يعمل براتبه، فلا يكسب إلا ما يعيل نفسه وأهله.. أي امبراطورية سيخشى زوالها إن رحل عند ذلك؟! وتكون نظرته للمال كما يقول أفلاطون: " المَلِك ليس من جمع المال بل من دبر المال" فهَمُّه أن يعيل شعبه، أن يدبر للأمة موارد رزقها، لا أن يتملك هو ويعلو بملكه ويتطاول بقصوره ويزهو بأرصدته البنكية، ولا يكون ذلك إلا إذا كان غني النفس عزيزها، فبذلك يكون حراً لا يطغى ولا يستبد، لأن الطغيان والاستبداد لا يكونان إلا من حاكم فقير النفس فارغها.. يقول أفلاطون: " فقيرة هي النفس التي تنظر إلى باطنها فتجد خواء، فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسد هذا الخواء فتتصيد أناساً آخرين لتخضعهم لسلطانها.... أما المكتفي بنفسه فلا يطغى بل يشعر بثقة واطمئنان".

أحلم بحاكم بعيد كل البعد عن القوة العسكرية فلا رأس مال يحكم ولا قبضة عسكرية تبطش، يقول أفلاطون: "يحل بالدولة الدمار عندما يحاول التاجر أن يصبح حاكماً أو يستعمل القائد جيشه لحكم البلد" فيكون الحكم مدنياً، لا ميل فيه للقمع وسلب الحريات، ولا لكنز المال وتجميع الثروات... فيبتعد كل البعد عن الاستبداد، يقول أفلاطون: "تقوي الأنظمة المستبدة أنظمة التحكم والسيطرة العُنفية المتمثلة بأجهزتها القمعية لتعمل على إفساد المجتمع وإضعاف قيمه وأعرافه الاجتماعية بغية السيطرة عليه لأمد غير محدود"

وأحلم بحاكم يكون همه الأكبر ترسيخ العدالة.. تلك العدالة المستمدة من القانون، وهو ما عبر عنه أفلاطون بقوله: " يتعين على الحاكم فرض نظام اجتماعي للسيطرة على أفعال وسلوكيات البشر بما يحقق لهم الأمن والاستقرار الاجتماعي من خلال فرض القانون على الجميع، وفرض العقوبة المناسبة على الخارجين على حدود المجتمع، وبذلك يشكل الضمان اللازم لتمسكهم بالعقد الاجتماعي"، فمهمة الحكم الصحيح تحقيق المصلحة العامة، تلك المصلحة التي تحققها دولة القانون، فالدولة بلا قانون تصبح عرضة لكل أنواع الظلم والطغيان، والعدالة لا تحقق الأمن للشعب فحسب، بل تحقق لهم الحرية والسيادة يقول أفلاطون: "الدولة التي يحكمها طاغية لا يمكن أن تكون حرة بل مستعبدة لأقصى حد" فالطاغية يسعى للحفاظ على كرسيه ولو باع وطنه ورفع بيده راية المحتل في أرضه.. وكم من حاكم عربي طاغية فعل ذلك؟!

كما أحلم بحاكم يرفع شعلة الثقافة ويحارب الفساد، فيقرب منه أهل العلم ويجعلهم معه شركاء في الحكم وليس هذا فقط بل يجعلهم أوصياء على تنفيذ القانون وتطبيقه، وهو ما رآه أفلاطون إذ يقول: "يعتمد النظام على ايجاد جماعة أوصياء على القانون وهم 37 فرداً بلغوا الخمسين يتم انتخابهم على 3 مراحل ومهمتهم الإشراف على كافة شؤون الإدارة يمارسون مهمتهم عشرين سنة حتى إذا بلغوا السبعين عزلوا"

حلمي هذا ليس إلا صورة لما أرادته ثوراتنا العربية عندما ملأت الميادين وهي تهتف بسقوط أنظمة الطغيان التي تحكمها، صورة شوهتها الثورات المضادة، فإذا بنا في كثير من دول الربيع العربي نعود تحت سطوة الحاكم الواحد والنظام الواحد والقبضة الأمنية، وتنفتح بلادنا على كل محتل ليسرح ويمرح في أراضينا، ويسلبها خيراتها ويقيم فيها قواعده العسكرية ليوطد أركان الحكم الذي ثرنا عليه، أو ليوطد أركان حكم جديد جاء على ظهر دبابة ليعيد للحكم العسكري في بلادنا سيرته الأولى، حلم أردناه وما زلنا وسنبقى حتى آخر عربي حر صرخ ذات يوم: " حرية " وسيظل يصرخ.

سهير أومري

كاتبة وإعلامية