هل سمعت عن الذين يشعرون بسكرات موتهم وهم لا زالوا على قيد الحياة! لم يقاسِ إنسان في حياته مثل ما يقاسونه الآن من آلامهم وأوجاعهم، يلاقون نصيبهم من العذاب قبل موتهم، ذهبت بهم الدنيا إلى سوق الشقاء والآلام، هم واعظو كلَّ متكبرٍ على الحياة جبَّار، هم أعلم أهل الأرض بأن حكمة الله غريبة، ولكن.. هل كانت غريبة عليهم، أم أنها فقط غريبة على الضعيفين.
التعب، والخوف، والوجع، والحكمة، والصبر والاحتساب، كلمات إذا أردت أن تعلمها للناطق بغير العربية، ليس عليك إلا أن تعطيه الدرس في حضور شخص يعاني السرطان، وتأكد أن هذا لن يكلفك سوى تذكرة دخول المشفى، لم يستطيعوا قط أن يعيشوا حياةً عاديةً، كأي مريض يتأقلم مع مرضه، فيمارس نشاطاته الحياتية لو كانت دراسة، أو خروجات، أو لعب، وكل شيء يُفعَل في الحياة يستكثره المرضُ على أن يشغل من بالهم جزءا، ولو قليل من تلك الأشياء للقليل من الوقت.
حقا، (عن الذين يعالجون سكرات الموت بابتسامة)! علَّني لم أخطئ عندما عبرت عنها بسكرات، وددت أن أقول أن الله سبحانه وتعالى لم يري أحدا من العالمين موته يتحقق أمامه، حتى الشخص العادي الذي يسجد وينال البشارة، ونرى بشارة الله فيه بينما هو لا يراها تتحقق أثناء ما هو حي، ولكن هؤلاء الذين يظلوا يعانوا منها طوال سنوات، نزال طويل الأمد لا هدنة فيه مهما فعل عباقرة الأرض، إنهم على موعد مع يوم لقاء نِعمَ النصير، صاعدين إلى ربهم، لا يشفي عليلهم إلا الجنة. ربما أن الكثير منا شهد هذا في الأيام الأخيرة على صفحات الذين كانوا يوما ما يصارعون ذلك المرض عندما عبروا كاتبين على منصة فيسبوك، أحدهم يطلب من ربه الكفاية فينال، وآخر يطلب الدعاء له بالرحمة وأن يعفوا عنه الذين وضع احتمالا أنه أساء إليهم يوما. نعم، هؤلاء الذين لا يشفي عليلهم إلا الجنة.
تظهر (تيتة فريدة) في إعلان على صفحة المشفى التي تُعالج فيها بعد عام أو اثنين من النزال القائم بلا هدنة، وهي تقول: "يا سلام يا بت يا ديدة، كنتي زمان حلوة وصغيرة، كنت عاملة زيت في شعري في الإعلان ده، كنت زي القمر، كبرت وبقيت تيتة.. ههههه". ثم تنتقل لمشهد آخر تصنع الكروشية بالدوبار والتروكوه، وهي تقول: "نظري مبقاش زي الأول، كهههه!" تيتة فريدة التي بدأت علاجها منذ الإعلان الذي عُرِضَ في رمضان ٢٠١٨، وهي تقول: "معلش يا دودو ده بابا عاوزني معاه في مشوار، لما أرجع هلعب بيكي وهحكيلك أسرار!"
هؤلاء الأقوياء، وأصحاب العزم وأصدقاء متلازمة داون، ولكل منهم طبيعة خاصة، ولكنهم اجتمعوا منفردين على عكس ما عليه بقية البشر، فكانت وجوههم مرآة النفوس والأرواح، هم الذين عُرفوا من أجسادهم، الظاهر منهم هو باطنهم وأنه قلب كل منكم محمولٌ في سوداويته، أرواحٌ لم يخلق الله مثيلها لدرجة أن جمالها كانت شؤمًا عليهم، إنها غبطة الروح يا صديقي.
صديقي الذي تعالج سكرات موتك، أتعجب عندما انظر وأحدق فيك لأرى فيك كلمات "العودة"؛ فأراك بشرا ولا تزال تتعامل مع الرحيل كأنه امتدادٌ طويلٌ للحياة، وأنه انتقال من مكان لآخر، من حلم لحلم، علمت الحقيقة التي يجب علينا جميعا علمها، علمت أنك تحت ظل شجرة الحياة، فتُعامل الموت كأنه أستاذ علمك أن الحياة وجه آخر للموت، وأن الموت وجه آخر للحياة، ليت لنا من حكمتكم عندما نرحل فنكون قد رتبنا أوراقنا كما يجب.
الآن، عزيزي الذي تعالج سكرات موتك، رسالتُك التي سوقتها إليَّ وصلتني توًّا، وللأسف وصلتني وأنا في عمر الثلاث والعشرين، على كلٍ.. فنَعمْ صدقت؛ هذه الحياة التي نحياها إنما يلجأ إليها ويريدها الهُمَّل العاطلون، الذين لا يصلحون لعمل من الأعمال، ليتواروا فيها عن بعضهم البعض حياءً وخجلا، حتى يأتيهم الموت، فينقذهم من عارهم، وما أنت بواحدٍ منهم. كانت الخاتمة قاسية قسوة لم نعهدها منك؛ "فلكم حياتكم ولنا حياتنا.. لنا حياتنا ولكم حياتكم"
نعلم أنكم قادرون أن تُلِموا بما في أنفسنا ومشاعرنا من الحزنِ نحوكم، ونعلم جيدا أنكم تنظروا إلينا نظرات الشفقة علينا عندما نكون بلهاءَ في كل مرة نجتمع حولكم ويخبر أحدُنا أحدَكم: "لم يتغير فيك أي شيء يا صديقي"، كنتم أكثر منا حكمة.. فنراكم دائما تبتسمون.. حتى جعلتمونا لا نرى شعرة تترك منبتها إلا وصار ذلك المنبت فمًا ضاحكا تموج فيه الابتسامات اللامعة، وتلك الابتسامات التي كان لها الفضل في بزغ الشعر الحريري مجددا.
وبالنسبة لي ومع بلوغي الثلاثة والعشرين، لا زلت لم أؤت حكمة تشبه حكمتك تلك ولا صبرا يشبه صبرك على النوازل، ولا زلت ضعيفا، متمسكا بالحياة التي لا أعلمها، وبأحلام واهنة، لا أعلم أن الله له حكمة في مجرى حياتي، لا زلت ضعيفا هشا يا صديقي، وحقيقتي أنني ضعيف كفتى لم يقوى إيمانه ولا أواجه ضعفي، كذلك أنا الأبله الذي لا يعلم أنك تعلم سيناريو محاولاته الكثيرة الفاشلة من أجل إخراجِ سطرٍ واحدٍ ورديٍّ أنقله عنك للقارئ، ولا أحبذ أن تقع عيناك على تلك الكلمات، أو أحبذ.. فأنت أنت، ومن نحن!
مهندس