الشيخ منهمك في ضرب "سيدي محمد" المقيّد بسلاسل حديدية. المجهود الذي يبذله في «تعذيب» الشاب أمامه يجعل من تلاوته للآيات القرآنية متقطعاً ولاهثاً. أما الشاب، فينتفض في مكانه غير قادرٍ على الإفلات.
في ظروف أخرى، كان لينقض على ذلك الذي «يعالجه» ويرديه أرضاً. ذنبه الوحيد أنه «مريض»، مرض قد يستدعي في محيطنا زيارة عيادة طبيب نفسي، أو الخضوع لعلاج في مستشفى للأمراض النفسية، أو بكل بساطة، تناول بضع حبّات مضادة للإكتآب أو أدوية أعصاب. غير أنه في نظر جزءٍ كبيرٍ من الموريتانيين، جنون لا يسببه سوى الشياطين، ولا علاج له سوى بالضرب، وبممارسة بعض الشعائر الدينية. الشياطين تخاف الضرب والتعذيب والإهانة، ما يتيح للشيخ «المعالج» السيطرة عليهم وإخراجهم من المريض بشكل نهائي.
سيدي محمد هو الوحيد لدى أبويه القاطنين في صحراء قاحلة تسمى بـ "آوكار" في الجزء الشمالي من موريتانيا. الشاب الثلاثيني ذو العضلات المفتولة والقامة المتوسطة، لطلما اعتبر شخصاً فكاهياً يسعد لمجالسته الآخرون. يرعى قطيعا من الغنم تمكله أسرته التي لا زالت تعتمد في حياتها على الترحال كما هي حال آلاف الأسر الموريتانية.
في المعتقد الشعبي الموريتاني، أصل الاضطرابات العقلية هو الشياطين الذين يسكنون المريض ويفسدون عقله. يتعاطى الموريتانييون بالتالي مع الاضطرابات العقلية كما تعاطت مختلف المجتمعات عبر مر العصور مع طرد الأرواح الشريرة. في رأيهم، لا دواء أفضل من تلاوة القرآن والدعاء، باستخدام العنف.
يعتبر الشيوخ ورجال الدين الأطباء الفعليين، وقد نتج عن ذلك نشوء «تجارة» جديدة ترعاها قوانينها. يبرم أهل المصاب مع "الشيخ" المعالج عقداً يتفقون فيه على ما سيدفعونه مقابل شفاء مريضهم.
في السابق كان المبلغ المادي المتفق عليه يعادل الدية المتعارف عليها في الشرع الإسلامي، وهي مائة من الإبل بالنسبة للحر و50 بالنسبة لغير الحر (استناداً إلى أن نظام العبودية لا يزال قائماً)، لكن مع مرور الزمن، تنازل المشايخ عن هذا التحديد، وبات الطرفان يعتمدان على عقد يدفع بموجبه أهل المريض مكافأة مالية حسب الاتفاق.
لا يرغب الموريتانيين في علاج مرضاهم بالطب الحديث، معتمدين في ذلك على قناعة مفادها أن الطب الحديث «يفسد عقل المجنون بشكل نهائي ويجعله تائها هائما بلا وعي». يقول ذو الشاب سيدي محمد إن «علاج المشايخ ناجع ومعتمد في عموم موريتانيا، غير أن النكوص عن دفع الدية أو المبلغ المتفق عليه يحول دون شفاء المريض أو يفاقم حالته". ترسّخ في المعتقد الاجتماعي أن سبب عدم نجاح علاج المشايخ يكمن غالباً في غياب المكافأة المالية المناسبة.
تؤكد أسرة "سيدي محمد" أن ابنها سبق أن أصاب «بالجنون» ومكنته تلاوة القرآن والأدعية من الشفاء لفترة طويلة. غير أنه عاد «للجنون» مجدداً في ظل عدم تمكنهم من دفع دية كافية «تحمي ابنهم وشيخه من شر الشيطان الرجيم». مع ذلك، يعتبر سكان المنطقة أن شفاء الشاب سيدي محمد أمر حتمي، وليس سوى مسألة وقت، في ظل مواظبته على علاج الشيخ
لا يحظى الطب الحديث بسمعة إيجابية في كافة أنحاء موريتانيا. لا يزال الاعتماد عليه مقتصراً على فئة صغيرة من الناس. لا يوجد في موريتانيا مثلاً سوى مستشفى نفسي واحد هو "مستشفى الأمراض النفسية" في العاصمة نواكشوط، وهو يشهد نوعاً من الرفض لدى معظم الموريتانيين، لا سيما خارج العاصمة. المرضى المتواجدون فيه هم غالباً أولائك الذين قرّر ذووهم التخلص منهم، بعد أن استعصى عليهم العلاج المحلي. يتيح لهم المستشفى إمكانية أن يسكنوا مرضاهم ويعيلوهم بعيداً عنهم.
لا توجد في موريتانيا بعد منظمات حكومية أو أهلية تتبنى تغيير هذا المعتقد الخاطئ الذي بات يزول تدريجياً في معظم الدول العربية. بمجرد أن تسوء ظروفهم النفسية والعقلية نتيجة عوامل عدة، قد تكون الحر، أو الظروف المعيشية أو الطبيعة القاسية للحياة البدوية، يعيش الكثير من الموريتانييون تحت رحمة الشيوخ، وأساليبهم المؤذية غالباً والتي لا يملكون خيار التمرد عليها.
سيدي محمد، الذي كان ينتفض على ممارسات الشيخ في بدايات علاجه، بات يستسلم لها اليوم، نتيجة ظنه بأنه المسؤول عن فترات الراحة التي يعيشها بين فترة وأخرى.
رصيف 22
.