بين أصوات مؤيدة وأخرى معارضة، لا ينفكّ الجدل الدائر حول تعدد الزوجات في موريتانيا منذ سنوات يتجدّد بين حين وآخر، وتشارك فيه مكوّنات اجتماعية ترفضه ومشايخ يصرّون على تشريع تطبيقه، ودائماً ما يحضر في السجالات شرط "لا سابقة ولا لاحقة" الذي تتضمّنه بعض عقود الزواج. قبل فترة، أصدر المجلس الأعلى للفتوى والمظالم بموريتانيا، وهو هيئة رسمية تابعة لرئاسة الجمهورية، فتوى حول مسألة اشتراط المرأة على الزوج في عقد القران أن "لا سابقة ولا لاحقة"، وهو الشرط الذي يلزم الرجل بالاستجابة إلى طلب المرأة الطلاق، بحال تزوج عليها دون علمها. أتت فتوى المجلس لتؤكد مشروعية هذا الشرط وما يترتب عليه من توابع، وجاء فيها: "أما بعد: فقد ذكر الفقهاء في كتبهم أن الزوجة إذا شرطت على الزوج في صلب العقد أن لا سابقة ولا لاحقة وإن تزوج عليها فأمرها بيدها أو بيد وليها، وقبل الشرط، فبمجرد أن يتزوج عليها لها أن تأخذ بشرطها، لأنه التزم لها بذلك والوفاء بالشروط مطلوب". واعتبرت الفتوى أنه إذا لم يرد هذا الشرط في العقد وكان العرف جارياً بمنع التعدد وتزوج الزوج عليها "فليس للزوجة القيام بشرط معدوم، إذ المعتبر الشرط المصاحب للعقد، لأن من أرادت أن تطلق بتزويج زوجها عليها اشترطته في العقد". جاءت هذه الفتوى لتنضم إلى ترسانة الحجج والحجج المضادة في الجدل المستمر منذ سنوات في موريتانيا حول تعدد الزوجات. وكانت الفتوى إجابة على السؤال التالي: "هل للمرأة الأخذ بالطلاق إذا تزوّج عليها زوجها أخرى علماً أن العرف عند ذويها لا يمنع التعدد إلا إذا اشترط على الرجل الشرط المعروف (لا سابقة ولا لاحقة)؟ علما أن أمهاتها لا يتزوج عليهن".
جدل متجدد
قضية تعدد الزوجات هي فعل مرفوض اجتماعياً في وسط المكوّن الناطق باللهجة الحسانية، أي أصحاب الهوية الثقافية العربية في موريتانيا، لكن ذلك لم يمنع من بروز أصوات لها وزنها تطالب به، وصدور بيانات لها طابع أهلي تنادي به. فقد صدر قبل نحو شهرين بيان موقع من عشرين رجلاً يتحدرون من مدينة كرو في الشرق الموريتاني، يطالب بتخطي شرط "لا سابقة ولا لاحقة". وتم تداول البيان عبر تطبيقات المحادثة كـ"الواتس أب" وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، وجاء فيه: "العادات ليست معتقدات والتقاليد أمور اصطلح عليها الناس لكنها تتحول وتتبدل حسب الظروف". وخلص البيان المذكور إلى أنه وعياً من الموقعين بواجب التمسك بالمصلحة العامة للأبناء والبنات ومواكبةً للتحول السريع الذي يمر به المجتمع ونظراً إلى ضرورة "توجيه الغرائز نحو القنوات النظيفة"، يعلنون أن شرط "لا سابقة ولا لاحقة" أصبح متقادماً ولا يمكن الاستمرار في قبوله. لم يمرّ هذا البيان مرور الكرام، فقد قوبل برد موقّع من مجموعة نساء يتحدّرن من نفس المدينة ووصل عددهن إلى 59 سيدة، يرفضن فيه مسوغات التعدد وتخطي شرط "لا سابقة ولا لاحقة".
وقالت النساء في بيانهن: "نندد ونستنكر ما قامت به تلك الجماعة من إخلال بالمواثيق ونقض للعهود ونقول بلسان واحد وقلب واحد لا وألف لا لن نقبل أن تجعلونا دمية باسم الدين والسنّة والدين منكم براء فأنتم لم تؤدوا حق واحدة فكيف باثنتين! نساء أهل كرو إما أن تمسكوهن بمعروف وتكرموهن كعادتكم أو تسرحوهن بإحسان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".
دعوات للتعدد
هذه الحادثة ليست معزولة، بل سبقتها دعوات أخرى لها طابع أهلي وقبلي تطالب بالتعدد وبوقف العوائق الاجتماعية أمامه. وبرزت شخصيات لها وزنها العلمي تروّج لذلك. ويُعتبر العالم والداعية الموريتاني محمد لد أبواه، أهم الداعين إلى التعدد، وقد خرج في إطلالات تلفزيونة كثيرة يروّج له ويطالب به، ويقدم تجربته مع التعدد كمثال يدعو إلى الاحتذاء به، وظهر أكثر من مرة في برامج تلفزيونية برفقة زوجاته.
وكذلك، سبق أن طالب العالم الموريتاني حمدا ولد التاه النساء الموريتانيات بقبول التعدد، وبّرر مطلبه بأن التعدد "يُعتبر حلاً لظاهرة الطلاق في المجتمع الموريتاني، وكذلك علاجاً لخطر العنوسة".
نساء مع التعدد
لا تقتصر المطالبة بتعدد الزوجات على العلماء والرجال. سبق أن نادت الكاتبة الموريتانية تربة منت عمار في مقال لها، نشرته عام 2012، بالقبول به، وقالت إن رأيها "قد يكون غريباً عند البعض". وكتبت أن انفتاح المجتمع الموريتاني وانتشار ظاهرة هجرة الرجال منه وزواجهم خارج الوطن بما ينعكس سلباً على نسبة الزواج لدى النساء اللواتي يعانين من الجهل والفقر وانعدام قبول المجتمع لهن، "يجعلنا نشفق على النساء الموريتانيات من مصير مجهول قد لا تحمد عقباه. وكل هذا يجعلنا نقبل بتعدد الزوجات كحل لمعضلة العنوسة وارتفاع نسبة النساء على الرجال فنحن نتخذه علاجاً بطريقة عادلة لا ظلم فيها ولا حيف، فالمرأة المتزوجة برجل تتقاسمه معها أخرى أو أخريات مطمئنة بحياة زوجية وأطفال أحسن من تلك التي تعيش عنوسة سرمدية يحاصرها القلق والوحدة والارتباطات غير الشرعية". كذلك، كتبت في نفس التوجّه أسماء نسائية أخرى، ما أثار الجدل أيضاً، وكان من ضمنهن صحافيات. وعلقت الناشطة النسوية مليكة محمد الأمين على تلك الظاهرة بقولها لرصيف22: "أعتقد أن مطالبتهن تنبع من وضع الاستلاب العقائدي الذي تعيش في ظله المرأة ويُكرَّس عبر سيرورات متعددة تبدأ بالتنشئة". وأضافت أن تغيير وعي النساء المطالبات بتعدد الزوجات يحتاج إلى "مجهود كبير وقطيعة معرفية مع كل ما سبق"، فبرأيها "هذه المطالب غبية ومكرسة للاختلال الذي نعيشه على مستوى بناء الأسرة، ليعود السؤال: هل نحن نعيش في ظل مجتمع الأسرة أو مجتمع الحريم؟ هل يتزوجون من أجل تأسيس شراكة وبناء الإنسان أم فقط لشرعنة الجنس وجعل الزواج عبارة عن ‘سكس كلوب’ للرجل؟". وشكلت المطالبات بتجاوز شرط "لا سابقة ولا لاحقة" صدمة لبعض الناشطات النسويات، واعتبرنها انتكاسة وخطراً يهدد بعض السمات المميزة للمجتمع. وتعتبر الأمين "أن الدعوات والفتاوي المناهضة لشرط لا سابقة ولا لاحقة انتكاسة للمجتمع أمام الفكر الأصولي والسلفي"، إلا أنها تضيف: "لا أعتبرها انتكاسة حقوقية ما دام القانون لا يجرم التعدد".
رصيف 22