صراع الحلفاء: فشل تجربة «بوتين – ميدفيديف» في موريتانيا

7 ديسمبر, 2019 - 16:20

بينما كان الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز يتسوق في عاصمة الضباب، لندن، التي قصدها لتعلم اللغة الانجليزية، بعد أن وعده الزعماء الأفارقة بمنصب أممي كبير مقابل تخليه عن السلطة بطريقة سلمية. وصلته رسالة على تطبيق «واتساب» تفيد بضرورة عودته إلى البلاد لينقذ حزبه من أن يبتلعه ولد الغزواني.

كانت خطة ولد عبد العزيز بعد تخليه عن الحكم أن يحصل على منصب المبعوث الأممي إلى ليبيا حين عودته للمشهد الانتخابي في 2024، حيث يحفظ الرئيس الموريتاني الحالي محمد ولد الغزواني له ذلك المقعد. اقتضت الخطة في حال فشله، كما حدث من رفض المفوضية الأفريقية لحصوله على المنصب الأممي، أن يعود إلى المشهد السياسي مرة أخرى من خلال حزبه الذي أسسه منذ 10 أعوام، الاتحاد من أجل الجمهورية، ويقاسم الغزواني السلطة، استنساخًا للتجربة الروسية في تبادل الأدوار بين بوتين وميدفيديف.

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، أو لنقل إنها السياسة تلتهم تحالفات الأمس، طالما انقطعت أسباب وصلها اليوم. فجَّرت عودة عزيز إلى موريتانيا الصراع الدفين بينه والغزواني، فأصدقاء انقلاب الأمس هم خصوم اليوم، هذا المشهد يحتاج لمزيد من التحليل وليس مجرد السرد، لاستشراف مستقبله ومعرفة إلى أي مسار يتجه.

مشهد بانورامي

الأحداث في خريف موريتانيا الساخن، جرت بشكل متسارع خلال الأسابيع الماضية، سرد تلك الأحداث لن يصل بصورة واضحة عن تعقيدات المشهد في الداخل الموريتاني. علينا إذن تفكيك المشهد لنشكل تصورًا ما حوله، بدءًا من التحولات التي أجراها ولد الطايع، الرئيس الأسبق لموريتانيا، وقوفًا على التغيرات التي جرت في عهد ولد عبد العزيز.

يتسم المشهد في موريتانيا بالديناميكية المفرطة بين مكونات أولية للمجتمع كالقبيلة والتكتلات العشائرية، ومكون ديني وآخر سياسي وحياة مدنية نمت في عهد ولد الطايع الذي جرى الانقلاب عليه في 3 أغسطس/ آب 2005. همَّش ولد الطايع مؤسسة الجيش واعتمد نظامًا ريعيًّا في تقسيم المناطق على أساس جهوي وقبلي حتى داخل نواكشوط، كما شهد عهده منذ منتصف الثمانينيات هجرات ضخمة من البادية إلى الحضر.

جرى توزيع الريع عبر تقسيم الأراضي، مثلت الوظيفة المدنية في جهاز الدولة الذي بدأ في التضخم حلمًا موريتانيًّا في الترقي الاجتماعي، والذي جرى محاصصته بالتوازي مع تهميش المؤسسات العسكرية في البلاد وإبعادها خارج صراع الأجهزة على السلطة. امتيازات الموظف المدني كانت تفوق بكثير تلك التي يحصل عليها العسكري.

 ولأن السياسة المدنية عذبةٌ وريانة، فقد اعتمد عليها ولد الطايع وأرسى مؤسساتها، فكان الحزب الجمهوري حزبًا حاكمًا يحفظ مستوى التفاعل بين المجمتع وجسد السلطة، ونجح في ذلك خلال عقدين من الزمن، إلا أن تخوفاته من المؤسسة العسكرية أصبحت واقعًا فيما بعد.

في عالم آخر كان ولد عبد العزيز الذي توقف تعليمه عند الشهادة الإعدادية، يذهب للدراسة بالأكاديمية العسكرية بمكناس المغرب، بتوصيةٍ استثنته من شرط البكالوريوس لدخول الأكاديمية، من إعلي ولد محمد فال قائد الشرطة الوطنية وأحد شركاء ولد الطايع في انقلاب 1984.

 يترقى الرجل في الجيش، حتى يثبت نفسه فينشئ ولد الطايع جهازًا لحماية الرئيس من انقلاب الجيش، ويضع ولد عبد العزيز على رأس الحرس الرئاسي الجديد «بازب»، ليكون له دور محوري في وأد انقلاب ولد حننا 2003، ذلك الإسهام الذي ترقى بعده إلى رتبة عقيد.

 ما كان يخشاه ولد الطايع داهمه. قاد ولد عبد العزيز انقلاب 2005، بعد تثبيت قدمه داخل مؤسسة الجيش، ونسجه خيوطًا دقيقة من شبكة علاقات واسعة. كان الرجل الطموح يفكر حينها في استنساخ تجارب شبكات علاقاته العسكرية بأخرى اقتصادية، وأخرى مدنية على استحياء. نجح الرجل وشركاه في الانقلاب والدفع بإدارة المرحلة الانتقالية إلى ولد فال.

انتهت المرحلة الانتقالية بانهيار مؤسسة الحزب الحاكم، وصعد نجم حزب عادل، وأتي بسيدي ولد الشيخ عبد الله كرئيس مدني هو الأول في تاريخ موريتانيا العسكري، مع تفكيك مؤسسات السياسة المدنية. سمح ذلك بوجود شرخ وتضارب داخل البيت السياسي في البلاد، ولم يستطع الحكام الجدد إيجاد مداخل ولد الطايع، ولا نسج مصالح جديدة مع المجتمع كشرعية جديدة لها.

على إثره وثبت على السلطة المؤسسة الأكثر تنظيمًا في البلاد، بعد عام من الحكم المدني، ليعود الحكم العسكري عبر انقلاب ناعم كان مصدره البرلمان واحتجاجات شبه شعبية. هذه المرة كان الحكم الجديد ليس كسابقيه، وجه أكثر نضجًا أو مكرًا، ارتباطات مدنية قوية قام بها ولد عبد العزيز، في ظل تعديلات دستورية شبه ديموقراطية في تحديد مدد الرئاسة، ومنع الرئيس من ترأس حزب سياسي وهو في الحكم، ليحول دون وجود حزب حاكم يؤدي للإفساد، ومحاصصة السلطة في إطار جهوي.

عشرية ولد عبد العزيز

لأن الهيمنة تحتاج لمؤسسة تحقق الترابط الجماهيري واختراق الجماهير عبر أيديولوجية، أنشأ ولد عبد العزيز حزبًا جديدًا سُمي الاتحاد من أجل الجمهورية، تربع من خلاله ولد عبد العزيز على هرم السلطة، وأصبح حزب سلطة مهيمنًا لحساب الرئيس، متنكرًا من رقابة الدستور، بعد تخلي ولد عبد العزيز عنه بعد فوزه بالرئاسة 2009.

ماذا جرى في عهد ولد عبد العزيز؟

انفتحت البلاد في علاقات المال والسلطة، دفع ولد عبد العزيز برجالات قبيلته ولاد بسباع إلى المشهد الاقتصادي، وقام بإحلالهم محل نخبة ولد الطايع القديمة التي قام بالتنكيل بها، وسيطر أولاد عمومته على قطاع التعدين، كما انتخب زين العابدين ولد محمد في منصب رئيس أرباب العمل «رجال الأعمال»، وأحكم من خلاله على بيئة الاقتصاد الموريتاني، الذي انفتح في عهده.

كذلك أخواله ولد الهاه، سيطروا على التجارة واستثمارات الثروة الحيوانية، كما ساهم – بحسب اتهامات فرنسية له – في توسع شبكات تجارة غير مشروعة في غرب القارة الأفريقية، كتزوير العملة والمخدرات. أما على مستوى الجيش فقد تمكن الجيش في عهده من اقتصاد البلاد، وأصبح شريكًا في السياسة والاقتصاد على النقيض من حكم ولد الطايع، وأمَّن نفسه من شر الانقلابات العسكرية بتعيين أقربائه والموالين له في الحرس الرئاسي.

استخدم ولد عبد العزيز تلك الشبكة الزبائنية التي تتقاطع بين أسرته والمقربين، ومن تربطهم من قادة الجيش بالمصالح، واستقدم الغزواني كرجل زاهد للسلطة، محب لحياة الترف والدعة، ليس منافسًا يخشاه رجل كولد عبد العزيز، كونه ينحدر من قبيلة الديبوسات، التي تنعزل في الزوايا والتعلم الديني ببلاد شنقيط، وذات تواجد سياسي ضعيف، وحضور صوفي قوي.

ينتمي العديد من أفراد قبيلة الديبوسات إلى حزب تواصل، التابع للإخوان المسلمين، كذلك ينحصر وجودهم في المجال الاقتصادي في مجال تجارة التجزئة.

لكن الغزواني ذلك الرجل الذي يبدو مأمون الجانب لم يكن في حقيقته كذلك، وباغت رجل الاقتصاد  والسياسة الأول صاحب المال والجند، لأنه لم يكن هو الطرف الذي يتحرك بمفرده في مواجهة ولد عبد العزيز، بل كانت شبكة تفوق الغزواني، حالت دون تبديل الدستور والحفاظ على مدد الرئاسة وفق نصوصه.

 تتصل تلك الشبكات سياسيًّا بفرنسا والإمارات، وبعضها اقتصادي ملَّ من احتكار ولد عبد العزيز. داخل الجيش نفسه كانت هناك تحركات، أجبرت ولد عبد العزيز على إعلانه عن عدم تغييره لمدد الرئاسة، بعد شائعات بحجز أموال مشبوهة له في الإمارات مارس/ آذار الماضي، اقتضت الصفقة تجاوز ملفات الفساد الضالع بها مقابل نقل سلمي للسلطة.

التطويق من الأجناب: عمليات العزل

يحيلنا ذلك إلى المشهد الحالي؛ ما يصنعه ولد الغزواني الآن هو السعي نحو أسباب تمكينه، وذلك من خلال عزل ولد عبد العزيز عن مصادر قوته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وفي مشهد آخر تمكين شبكات المصالح الناقمة على عشرية عبد العزيز ووضع السلطة في البلاد. لم تكن هناك تحركات انقلابية من ولد عبد العزيز بالقدر الذي ظهرت في اجتماعه بلجنة تسيير حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، بل خطط لها كذلك، لأن الواقعة تشير لانقلاب الغزواني على صديق الأمس.

جاء المسمار الأول من الخليل ولد الطيب، الصحفي الذي توسط في فضيحة بدر بن عبد العزيز عام 2012، والناقم على عبد العزيز بسبب إهانته له في انتخابات برلمان 2018، بوضع اسمه متأخرًا في قوائم المترشحين. قام الخليل بإثارة أمر جديد على الحزب الناشئ، وتساءل عن مرجعية الحزب؟ ومن أين يستمد شرعيته؟ هل من الرئيس الحالي أم من ولد عبد العزيز مؤسسه الأول؟

انقسم الحزب على نفسه، مؤيدون لولد عبد العزيز والأكثرية للغزواني، أدرك ولد عبد العزيز ما يحاك، فقطع زيارته للندن متلهفًا، ليجتمع مع لجنة تسيير الحزب التي يتولى رئاستها محمد ولد خونه.

من دون أي صفة رسمية تخول له ذلك، ترأس ولد عبد العزيز اجتماع لجنة الحزب، استمرت المشاورات لأربع ساعات، ثم انتهت بانسحاب ولد عبد العزيز، وخرج ولد خونه بعدها ليشير إلى أن مرجعية الحزب اللوائح والقوانين، وليس شخص الرئيس الحالي أو الأسبق. كانت هذه الصياغة حصيفة جدًّا كما أنها سياسية بامتياز، إنها تحاول أن تحفظ تشظي الحزب من داخله، كما تحسم الأمر برفق لصالح ولد عبد العزيز، الذي إن احتكم الحزب لقوانينه فمن حقه المشاركة، وأن ينشط في رواق السياسة الموريتاني من جديد.

قُرع ناقوس التصارع، فأعلنت مجموعة أخرى أن المرجعية تعود إلى رئيس البلاد، بما أن الحزب مهيمن وحزب سلطة، فهي تؤول إليه أيًّا كان هو، وظهر في المشهد أن ولد عبد العزيز هو من يحيك الدسائس، إلا أن حقيقة المشهد أشارت إلى غير ذلك؛ يعبر الغزاوني عن نفسه، ويؤكد أنه ليس استمرارًا لعشرية ولد عبد العزيز.

عزلت الأطراف المؤيدة للغزواني ولد خونه، الذي يتولى منصبًا في شبكات الأعمال الممتدة في غرب أفريقا لولد عبد العزيز، وأحلت محله محمد ولد عبد الفتاح وزير النفط المقرب من بدر ولد عبد العزيز، جاءت تلك التحركات لطمأنة الشبكات الاقتصادية الموالية لولد عبد العزيز ليس أكثر، لكنها تشدد الخناق على ولد عبد العزيز وتستهدف عزله عن تلك الشبكات.

تبعت تلك التحركات تغيرات في الحرس الرئاسي «بازب»، الذي أُنشئ على يدي ولد عبد العزيز، ويدين بالولاء له لأن العديد منهم تربطهم به علاقة نسب. أقال الغزواني قائد الحرس محفوظ ولد محمد الحاج «صوكوفارا» وبعض القيادات، وترددت أنباء بالتحفظ على بعضهم. وعلى الرغم من تأكيد وزير الدفاع أنها تغيرات غير مقرونة بخلاف عزيز والغزواني، فإن الصحف المقربة من ولد عبد العزيز تشير لعكس ذلك.

ولد عبد العزيز الذي يتمتع بشبكة علاقات عابرة لحدود موريتانيا، عدو المغرب وصاحب النفوذ الاقتصادي في غرب أفريقيا، أصبح اليوم أسير شرك الغزواني، وبحسب الأنباء فإقامته محددة في مزرعته بولاية تيرس زمور شمالي موريتانيا، الأنباء نفسها تشير إلى منعه من السفر وسحب جواز سفره.

خريف نواكشوط العاصف

لا أعرف. أعرف أنه سيتعين إنهاؤه، وأتمنى حقًا أن ينتهي بطريقة تناسب الجميع.

— الرئيس الغزواني مجيبًا على سؤال: هل ينتهي فصل الخلاف مع ولد عبد العزيز؟ صحيفة ليموند الفرنسية.

لم يحكم ولد عبد العزيز من خلال عشيرته قبضته على الاقتصاد وحسب، بل كوَّن شبكات زبائنية عابرة لموريتانيا، بالإضافة إلى نفوذه في الإعلام الموريتاني، وليس انتهاءً بتمويله لداعمين له في فرنسا. كل هذا يفسر إلى أي مدى لم يكن عزل الرجل سهلًا، وما زال يمتلك العديد من أوراق اللعب.

بحسب الباحث الموريتاني محمد بون العثماني فإن نقطة ضعف نظام الغزواني قربه لجماعة الإخوان المسلمين، حيث مريد ديوانه محمد ولد محمد الأمين أخ لقيادي سابق في حزب «تواصل» الإسلامي، بالإضافة لقبيلته الديبوسات التي ينتمي غالبية أفرادها لتيارات إسلامية. هذا ما قد يستغله ولد عبد العزيز في دعايته المضادة، وفي ترويج ذالك خارجيًّا، ما سيدفع الغزواني للتخلي عن تلك التيارات،ما قد يسبب بالتبعية شرخًا في تحالفه الحاكم الجهوي.

أخيرًا ما نذهب إليه أن الأزمة ستستمر قدمًا، لأن منبعها الغزواني وليس ولد عبد العزيز الذي جرى عزله. ومن المهم معرفة أن هذا العزل لم يكن بدافع السلطة وحسب، وإنما محملًا برغبة إقليمية وأخرى دولية في تحجيم نفوذ العزيز في غرب أفريقيا، ومدعومًا بتحركات اجتماعية وأخرى اقتصادية ملت الاحتكارية التي فرضها ولد عبد العزيز.

خلاصة الأمر أن هذه الأزمة لن تهدأ وسيستمر ولد الغزواني في تحريك قطع الشطرنج، حتى يفكك شبكة مصالح ولد عبد العزيز الاقتصادية والاجتماعية، وهو يدرك أهمية ذلك، فيسعى بما اكتسبه من خبرة السنين، وتراكم العلاقات لمواجهة ذلك ما استطاع إليه سبيلًا، حتى يتحول المشهد السياسي في نواكشوط كخريفها، عواصف غضب ما تفتأ تصفو حتى تلحقها أخرى، أدهى وأمر.

سيف دويدار

من أبناء الشرق مهتم بالعلوم الإنسانية ودراسات علم الإجتماع السياسي، حاصل على بكالورويوس عام في الكيمياء-الجيولوجيا.

المصدر إضاءات

سيف دويدار