رحلة متخيلة إلى العصر العباسي للقاء "الجاحظ"

3 مايو, 2019 - 10:33

يعود بنا الكاتب الموريتاني "أحمد فال ولد الدين" في روايته الجديدة "الحدقي" إلى القرنين الثاني والثالث الهجري، ليروي لنا ما يشبه سيرة متخيلة لعلمٍ من أعلام الأدب في تاريخنا العربي هو: أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني البصري، المعروف بالجاحظ.

في"الحدقي"، يروي لنا الكاتب الموريتاني أحمد فال ولد الدين ما يشبه سيرة متخيلة لعلمٍ من أعلام الأدب في تاريخنا العربي "الجاحظ" 

غير أن الرواية التي تأخذ اسمها من شخصية هذا الأديب، الذي اتسم ببروز واضح في حدقتيه، لن تبقى في إسار الماضي، إذ إن الكاتب يخلق روابط مع العصر الحديث من خلال حبكة فنية تتيح له الانتقال بين الزمنين، زمن الخلافة العباسية والزمن الحالي.

ويكون هذا عبر شخصية الشاب الموريتاني "محمد القروي" الذي يأتي إلى الدوحة للعمل مدققاً لغوياً في قناة إخبارية شهيرة هي "العروبة"، حيث يصدم لكثرة التعديات التي تلحق باللغة العربية، ويبدأ شن حرب هوجاء على كل من يلحن في الكلام، أو يعبث بقواعد النحو، أو يهتك الصياغة السليمة. وسرعان ما يعاني من عداوات تنشأ بينه وبين باقي الموظفين الذين يرون فيه متعصباً للغة، ومعرّياً لجهلهم بها، فيتواطؤون مع بعضهم لإبعاده، وهذا ما يدفع برئيس التحرير إلى تكليفه بمشروع آخر، هو الكتابة عن شخصية مفصلية في تاريخ الحضارة الإسلامية، لينتجوا عنها فيلماً تاريخياً. وتكون الشخصية التي يختارها للكتابة عنها هي الجاحظ.

يبدأ "القروي" كتابته بمشهد جلد الخليفة المهدي للشاعر "بشار بن برد" بتهمة الزندقة. هذا المشهد الذي رآه "الجاحظ" طفلاً لكنه بقي في ذاكرته طوال عمره، يذكّره بجبروت السلطة وقوّتها أمام الكلمة الحرة.

"بات الطفل يتقلب في فراشه، ولحافه الأسود قد انحسر عن جسده لكثرة اضطرابه في مضجعه (...) لم ينم الطفل البارحة إلا بعد نوم البصرة كلها، فقد وقفت صورة الرجل الضخم بصراخه المكبوت بينه وبين النوم. كلما داعب النوم جفونه رنّ في أذنيه صدى استغاثة الشاعر، أو شماته أحد النظارة، أو شخصَ أمامه الجندي ذو الكراديس بسوطه المخيف".

يصوّر الكاتب بشكل متقن مدينة البصرة في ذلك الوقت، والجوّ الذي نشأ فيه الجاحظ، فيحكي عن طفولته وتتلمذه على الخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبرز المناقشات والمناظرات التي شكّلت شبابه، فتطالعنا بين الصفحات مناظرة جميلة حول الثنوية والتوحيد، بين اثنين من رجالات ذلك العصر. كما تحفل الرواية بالحديث عن كتب الجاحظ التي ألّفها، وما هي المصادر التي ألهمته كتابتها، وكيف كان يعمل عليها، وبخاصة كتب "البخلاء"، "الحيوان"، "البيان والتبيين"، وعلى الرغم من أن الرواية لا تحوي أكثر من نتفٍ قليلة جداً منها، إلا أنها محرضة على إعادة قراءة هذه الكتب والاستمتاع بها.

ينتقل الزمن الروائي بين ذلك العصر والعصر الحالي، حتى يبدو للقارئ أن كل حدثٍ آنيّ ما هو إلا انعكاس لحدث في الماضي، ويكون "محمد القروي" في الدوحة، مرآة للجاحظ في البصرة وبغداد، إذ لا ينحصر المشترك بين الاثنين على اهتمامهما بالأدب وحرصهما على اللغة العربية، بل يمتد لما هو أبعد، فكلاهما عاش في زمنٍ كثرت فيه الصراعات. وبموازاة قصة الحب التي يعيشها "القروي" مع زميلته السعودية التي يرفض والدها تزويجها له بسبب اختلاف بلديهما، يعيش الجاحظ قصة حب مع ابنة معلمه ولا يتمكن من الاقتران بها، قبل أن يغرم في ما بعد بجارية المأمون "علية" ويعيش معها قصة غرام قاسية هي الأخرى، بعد خطفها.

سارعت حصة إلى غرفتها، وصكّت الباب وراءها، وارتمت فوق السرير الفاخر الذي تحوّل إلى شوك في تلك اللحظات. كيف تفقده هكذا دفعة واحدة؟ وضجّ ذهنها بأسئلة أبدية. كيف يتحكم والدي في مستقبلي لهذه الدرجة؟ كيف لا يسمح لي بأن أقرر، وأنا العاقلة البالغة الراشدة!".

لا بدّ من الإشارة إلى أن الرواية ترسم من خلال شخصيتها الرئيسة مشهداً لما كانت عليه الأمور في ذلك العصر الغني بالأحداث، إذ عاصر الجاحظ عدة خلفاء عباسيين، وكانت فترات حكمهم على قصرها حافلةً بالتنافس على الخلافة، وكيف أن ذلك لم يكن عائقاً في اهتمامهم بالعلم والعلماء، حتى أن "بيت الحكمة" في بغداد تأسس في ذلك الوقت، واستدعي "الجاحظ" إليه ليتفرغ للتأليف هناك، حتى صار مرجعاً للشعراء والعلماء والأدباء يأتون إليه ويستشيرونه، قبل أن يصاب بالفالج في نهاية حياته.

"يتكوّم الجسد النحيل ممدداً بين آلاف الكتب، داخل غرفة معزولة في زاوية من زوايا البصرة. تدور عيناه في سقف الغرفة فلا يرى إلا أكداس الكتب. نظر إلى كتاب مهترئ الجلد، فبرقت عيناه من الشوق، تأمله كأنه صديق قديم. فقد اشتراه من دمشق قبل أربعين عاماً، يمد يده ليأخذه لكنها لا تصل إليه. أخذت الأيام من قوة جسمه وأبدلته حدة وقوة في العقل والشعور كلما تقدم به العمر".

وخلاصة القول، إن الرواية استطاعت أن تنقل أجواء القرنين الثاني والثالث الهجري، وأن تحكي عن علمٍ من أعلامنا الذين أثروا تراثنا العربي بفكرهم وأدبهم، لتقول من جديد أننا "تكرار مقصود لأصل متجذر". ولكن ما يؤخذ على "الحدقي" هو أن الحوارات كانت أكثر مما تحتمل رواية، إضافة إلى بعض الزيادات هنا وهناك والتي كان من الممكن حذفها حفاظاً على كثافة النص الروائيّ.

أحمد فال ولد الدين: كاتب موريتاني، من مواليد 1974. عمل مراسلاً لقناة الجزيرة، واعتقل لفترة إثر تغطيته للأحداث الدائرة في ليبيا عام 2011. وعن هذه التجربة صدر له كتاب "في ضيافة القذافي.. قصة احتجاز فريق الجزيرة في ليبيا".

روياة الحدقي، الناشر: دار مسكيلياني/ تونس، عدد الصفحات: 440، الطبعة الأولى: 2018).يمكن شراء الرواية من موقع النيل والفرات 

فايز علام

" رصيف 22"