كان للطرائق الصوفية ومشايخها التاريخيين دور مهم في صوغ المشهدين السياسي والاجتماعي في الفضاء الموريتاني. ولكن هذه الحالة لم تأتِ من دون تضحيات، ولم تمنع استمرار وجود مَن يعارض هذه الطرائق ويوجه لها الانتقادات ويخوض معها صراعات شديدة معتبراً إياها بدعة ومحاباة السلاطين.
ويجد التصوف أو العرفان وطرائقه ومشايخه الكثير من التبجيل في موريتانيا. فهو من أبرز الروافد التي تشكل شخصية المواطن الموريتاني وتؤثر في وجدانه، وذلك منذ أمد بعيد، وهو، بالنسبة إلى الكثير من الموريتانيين، تهذيب للروح وأهم مدرسة سلوكية تعمل على الارتقاء والسمو بالنفس، لما يحمله من قيم روحية تعين الانسان على مواجهة الحياة المادية.
التصوف في مواجهة التطرف
يقدم المتصوفون أنفسهم على أنهم صمام أمان المجتمعات في مواجهة التطرف وأهله لما يحملونه من قيم التسامح وتقبل الاَخر. وهذا ما يحضر قوياً في المؤتمرات التي تعقدها هذه الطرائق في موريتانيا، وكان اَخرها مؤتمر نظمته الطريقة القادرية البكائية في شمال وغرب أفريقيا، وحمل عنوان "التصوف أمان من التطرف".
لكن هناك من يرى أن الطرائق الصوفية بواقعها الحالي غير مؤهلة للعب ذلك الدور. وفي حديث لرصيف22، قال الباحث في الفكر الإسلامي محمد المهدي ولد محمد البشير: "لا اعتقد أن التصوف في موريتانيا يمكن أن يساهم إسهاماً يذكر في محاربة التطرف، لسببين فكري وعملي. السبب الفكري يكمن في أن المتطرفين يستقون مواقفهم من إيديولوجية تقوم على العداء العقائدي للمتصوفة، وهذا ما يجعل مساحة التفاهم بينهم تضيق إلى درجة تبادل التكفير والاتهامات بالتضليل والتبديع. ويتجلى ذلك كله في الجفاء الشديد بين التيارات السلفية والطرائق الصوفية. وما دامت السلفية المعتدلة لا تتفاعل مع المتصوفة فمن المستبعد أن تجد دعواتهم أرضية في بيئات السلفية المتطرفة أو العنيفة. أما السبب العملي، فهو أن التصوف في بلدنا لم ينتقل من مرحلة الطريقة، التي هي علاقة روحية بين المريد والشيخ، إلى مؤسسة اجتماعية قادرة على التأثير في المجتمع والتعامل مع جميع مكوناته. وذلك لأن الطرائق الصوفية في موريتانيا لا تمتلك مدارس للتعليم، ولا هيئات خيرية، ولا مؤسسات إعلامية. صحيح أن أكبر المحاظر (مدارس تقليدية) في موريتانيا تتبع لعلماء متصوفة، لكن المحاظر نفسها لم يعد لها تأثير يذكر على المجتمع".
وخلص الباحث إلى أن "التطرف لا يحارب بالبيانات، ولا باللقاءات الظرفية، ولا بالملتقيات، بل يحتاج إلى رؤية فكرية واضحة، وعمل مدروس يجيب عن الأسئلة التقليدية في أي خطة".
ومن المعلوم أن موريتانيا تقع في منطقة غرب أفريقيا التي تجد فيها الجماعات المتطرفة ضالتها، خصوصاً في الجارة مالي وفي نيجيريا غير البعيدة، وتجاور دول الشمال الأفريقي التي تقيم فيها الجماعات المتطرفة بشكل متفاوت. وتشهد موريتانيا حالياً ارتفاعاً للأصوات التكفيرية وسبق أن تعرضت لاعتداءات نفذها تنظيم القاعدة.
التصوف والسياسية
كان للطرائق الصوفية ومشايخها دور مهم في التاريخ السياسي للفضاء الموريتاني، وبرز قادة طرائق كفاعلين في صناعة التاريخ. ولكن ذلك الحضور شابه بعض التقهقر. وقال الباحث الموريتاني المختص في التاريخ الموريتاني المعاصر سيد أعمر ولد شيخنا لرصيف22: "تاريخياً، لعبت الطرائق الصوفية، في مراحل ازدهارها، أدواراً كبيرة في حياة المجتمع الموريتاني وقد نجحت نظراً لحيازتها عاملين أساسيين هما أولاً، رسالية الدور بأبعاده الروحية والعلمية والإصلاحية، وثانياً، خلق الأداة التنظيمية العابرة للقبائل والمناطق في مجتمع انقسامي لم يعرف الدولة. وهذا ما أهلها لاحتلال موقع مميز أكثر فاعلية من أدوار الفقهاء وأشمل وأعمق من أدوار الأمراء ورؤساء القبائل. وعندما جاء الاستعمار، كان زعماء الطرائق الصوفية هم الأكثر تأثيراً في هذا الفضاء. لذا كانوا طرفاً فاعلاً في معادلات التأثير على الواقع الذي أعقب دخول الاستعمار على مختلف المستويات: المقاومة، المسالمة، أو المقاطعة الثقافية".
الصوفيون في خدمة النظام
عبر الزمن، تحولت الطرائق الصوفية إلى جزء مساعد على استمرار الأنظمة السياسية في موريتانيا وإلى وسيلة يلجأ إليها الحكام أيام الانتخابات. وقال ولد شيخنا: "بعد سيطرة الاستعمار التامة وتجذر مؤسساته الإدارية والأمنية والقضائية في طول البلاد وعرضها، أُخضعت الطرائق الصوفية والقبائل والإمارات واخترق بعضها وأُضعف بعضها الآخر وضُرب بعضها ببعض. وبعد الاستقلال، ورثت الدولة المستقلة الحالة الصوفية وفق المحددات السابقة ما أضعف أدوارها الإصلاحية، وحصرها في أبعادها الروحية والاجتماعية، وحولها إلى رافعة سياسية للحكام يتم استغلالها في المواسم الانتخابية، والتحالفات السياسية مقابل جملة امتيازات".
وتابع: "ثم مع تنامي الحالة الإسلامية الحركية بتنوعاتها المدرسية، ازدادت أهمية التصوف لدى الحكومات لخلق ظهير ديني لها، وهو ما برعت فيه بعض القيادات الصوفية والمجموعات المرتبطة بها في لعبة مصالح متبادلة".
وقد تحدثت دراسة أصدرها المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجة، عن ضعف دور الطرائق الصوفية في المشهد السياسي الموريتاني الحالي.
تاريخ التصوف في موريتانيا
تاريخياً، بدأ التصوف يتلمس خطواته الأولى إلى الفضاء الموريتاني في القرن العاشر الهجري (16م). وفي حديث لرصيف22، قال أستاذ الفلسفة في جامعة نواكشوط والمتخصص في التصوف الإسلامي، محمد يحي ولد باباه إن "البدايات كانت مع انتشار ما يمكن أن نسميه منظمات دعوية تملك سُلّمها الهرمي، وقد باشرت هذه المنظمات فعلاً اجتماعياً وأخلاقياً أفرز أشكالاً خاصة من المريدية، تفاوتت من منظمة دعوية إلى أخرى"، موضحاً أن "المنظمة الدعوية، في الفضاء الموريتاني، هي ما يعوض الزاوية بدلالتها المغاربية".
وأضاف ولد باباه: "لم تكن الزاوية كمؤسسة، كما عرفت في المغرب العربي، تتماثل في نظامها مع شبيهاتها في بلاد شنقيط (موريتانيا). ويعود ذلك بطبيعة الحال إلى الطبيعة الصحراوية للشناقطة وإلى كونهم قوماً في ترحال دائم، وهذا ما جعل زواياهم تمثل منظمات دعوية متنقلة على خلاف أنماطها في البلاد الأخرى. هكذا امتازت الطريقة الشنقيطية عن غيرها، بالارتباط بما سمي بالجامعات البدوية المتنقلة (المحاظر)".
وأضاف: "في البداية، لم يحضر التصوف في بلاد شنقيط بصورة مكشوفة ومستقلة وإنما كان حضوره خفياً وضمنياً لأن رواده الأوائل لم يستطيعوا الجهر به، نظراً لما تعرضوا له من رفض في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين (16 و17م)، ومن معارضة شرسة بلغت حد التصفية الجسدية لبعض رواده في الصحراء الكبرى، كما حدث للشيخ محمود البغدادي الذي جاء بالطريقة الخلوتية".
وأضاف ولد باباه: "تعرضت الحركات الباطنية المهدوية في منطقتي الكبلة وآدرار خلال القرن الحادي عشر الهجري، للتنكيل والرفض من طرف الفقهاء، حتى أن الإمام ناصر الدين أوبك، الذي قاد أول حركة باطنية علنية في بلاد شنقيط بمنطقة الكبلة، تعرض للتصفية الجسدية، وتوفي في معركة ترتلاس في ولاية الترارزة سنة 1674م، عندما كان يقود جيش الزوايا المجاهدين في مواجهة جيش المغافرة من عرب بني معقل الرافضين لدفع الزكاة بالقوة، وهي المعركة الثالثة في الحرب بين الفئتين. ومن أهم ما كان يذكي جذوة هذه الحرب، فتاوى الفقهاء المعارضين للنزعة الباطنية الصوفية لدى ناصر الدين، وغيره في بلاد شنقيط".
طرائق موريتانية ومؤسسون
تتزاحم الاَن في موريتانيا مجموعة من الطرائق الصوفية، وتتفاوت في التأثير والانتشار، وهي حسب حضورها التاريخي في الفضاء الموريتاني:
القادرية البكائية: تحتل هذه الطريقة مكانة مهمة في غرب أفريقيا وشمالها، وقد أدخلها إلى موريتانيا الشيخ سيد اعمر ولد الشيخ سيد أحمد البكاي بودمعة المتوفى سنة 940هـ. وقد ازدهرت أيضاً على يد الشيخ سيد المختار الكنتي المتوفى سنة 1226هـ.
الطريقة الشاذلية: أسسها أبو الحسن الشاذلي المتوفى سنة 656هـ وقد جلبها إلى الفضاء الموريتاني، وخاصة إلى مدينة تيشيت التاريخية، الشيخ التواتي المتوفى سنة 1138هـ.
الطريقة الخضرية: أسسها عبد العزيز الدباغ المتوفى في القرن الحادي عشر. وقد أتى بها المجدري بن حبيب الله اليعقوبي المتوفى سنة 1205هـ.
الطريقة التيجانية الحافظية: نشرها الشيخ محمد الحافظ بن الحبيب العلوي المتوفي سنة 1247هـ.
الطريق الصديقية: وهي ذات أصول قادرية أتى بها رجل من صعيد مصر، يسمى محمد الصعيدي، وذلك في أواسط القرن الثالث عشر الهجري.
وهنالك أيضاً طرائق عدة متفرعة من الطرائق الأخرى مثل الفاضلية والغظفية.
رصيف 22