نواكشوط مدينة شاحبة تندر فيها النشاطات الثقافية وأماكن التلاقي المدنية. وتعاني من ندرة المكتبات وعدم تنوّع محتوياتها إذ تسيطر على كتبها العناوين التراثية، ولا توجد فيها دور للعرض السينمائي. كما أن الأنشطة التي تنظم فيها يغلب عليها الطابع الرسمي ما ينفّر الشباب الطامح إلى التغيير منها. هذا الواقع دفع بعض الشباب إلى خوض معركة محاولة خلق مجال عام في المدينة وفرض نمط بديل من التعبير الثقافي والتمرد على الواقع المكبل. وهنا سنتحدث عن ثلاث تجارب بدأت تحظى ببعض الاهتمام.
مكتبة الآداب
بدأت قصة مكتبة الآداب في نوفمبر 2014 حين قام مولاي أرشيد أحمدو بإطلاق صفحة لبيع الكتب على موقع فيسبوك باسم "بيع الكتب في نواكشوط"، بهدف إيصال الكتب الفكرية والثقافية وكل أصناف الأدب إلى المواطن الموريتاني الذي يعاني من سيطرة الكتب التراثية على المكتبات القليلة الموجودة في نواكشوط. وقال أحمدو، خريج قسم الفلسفة المولع بالكتب، لرصيف22: "من الأسباب التي دفعتني إلى المغامرة بفتح المكتبة أنّي عانيت شخصياً من ندرة الكتب ذات التوجه الفكري والثقافي في موريتانيا. وهذا جعلني أدرك قيمة توفير مثل تلك الكتب للقارئ الموريتاني". بدأ المشروع بمجموعة على فيسبوك تضم المهتمين بكتب الثقافة والفكر. وروى أحمدو: "كنت أعرض الكتب على فيسبوك فيحجزها المهتمون ثم نتفق على مكان تسليمها. ولاحقاً، انتقلت إلى صفحة عامة وهو أمر طوّر الفكرة وزاد زخمها. وفي مارس 2015، افتتحت مقراً للمكتبة التي سمّيتها مكتبة الآداب". وقال المدوّن محمد عبد الرحيم، أحد رواد المكتبة، لرصيف22 إن "مكتبة الآداب تجربة نوعية في بلد كموريتانيا، بل لعلّها الأولى من نوعها في ما قدمته وما تقدمه". وتابع: "استفدت كثيراً منها. كنت كغيري من قراء الأدب والفكر والفلسفة نعاني من عدم إيجاد الكتب التي نريد، فنضطر إلى قراءتها إلكترونياً أو انتظار أحد الأصدقاء في الخارج حتى يجلبها لنا. لكن مكتبة الآداب قدّمت الحل عبر علاقاتها بمختلف المكتبات ودور النشر الكبرى في العالم العربي، فصارت تصلنا الكتب التي نريد ورقياً وبالأسعار التي تباع بها خارج موريتانيا". وأضاف: "استفادتي من مكتبة الآداب كبيرة جداً بحجم المسافة التي كانت تفصلني عن الكتب التي أريد". يدرك مولاي أرشيد صعوبة استمرار تجربته لكونه يعيش في دولة ترتفع فيها معدلات الفقر وهو ما يجعل من شراء الكتب عملية تثقل كاهل المواطن، لكنه يعتبر نفسه مناضلاً من أجل نشر المعرفة أكثر منه تاجراً يبحث عن الربح.
مبادرة اقرأ معي
هي مبادرة لتشجيع القراءة وتبادل الكتب. بدأت أيضاً بمجموعة على فيسبوك ثم تحوّلت إلى مكتبة عامة توفر مئات الكتب للإعارة. وقالت رحمة الشيخ أحمد وهي من المجموعة المؤسسة للمكتبة: "اقرأ معي هو الاسم الذي اخترناه للمكتبة الشبابية التي نسعى من خلالها إلى نشر ثقافة القراءة والمطالعة في المجتمع الموريتاني". وروت أن "فكرة المكتبة بدأت عن طريق فيسبوك، حيث وجدت تفاعلاً كبيراً من الجمهور. وبعد مضي سبعة أشهر في العالم الافتراضي، قررنا نقلها إلى الواقع واخترنا أول يناير 2016 تاريخاً لإنطلاق المكتبة رسمياً". وشرحت أن الفكرة التي وصفتها بأنها "سبق في المجال الثقافي في موريتانيا" هي إيجاد مكتبة تحوي جميع أنواع وأصناف الكتب، وتقديم خدمة إعارة مئات الكتب لكل مَن تتوفر فيه شروط الإعارة، وهي أن يكون عمره لا يقل عن 15 سنة، وأن يحصل على بطاقة قراءة مقابل دفع مبلغ رمزي. وتقوم المكتبة بنشاطات أخرى مثل نشاط شهري بعنوان "100 دقيقة نقاش"، وهو عبارة عن جلسة حوار تستضيف أحد الكتاب الموريتانيين لنقاش آخر إصداراته مع المهتمين.
وقال سيدي ولد محمد الأمين، وهو أستاذ ومدوّن، إنه حين سمع لأول مرّة بالفكرة، سخر في باطنه ممّا اعتبره "آمالاً ساذجة". أما اليوم، فصار يعتبر المبادرة "سيركاً ثقافياً يشمل مكتبة ضخمة مددت إليها يدي طلباً للمساعدة في إمداد طلابي بالكتب للمشاركة في مسابقة تحدي القراءة العربي". "طموحي للمكتبه عالٍ جداً وسقفه يرتفع كلّ هنيهة"، قالت رحمة وأضافت: "تمنياتي أن لا يخيّب رفاقي ظني بهم وثقتي العميقة جداً في قدرتهم على جعل مكتبة اقرأ معي كما نتمنى جميعاً، بداية تثقيفٍ واسع"، وأملت أن تساعد هذه المبادرة في التغيير وصناعة حضارة ودولة.
فضاء نواكشوط
تُعتبر المقاهي أحد أهم المرافق الوافدة على نواكشوط تأثيراً على حركة المدينة. خلقت مجالاً عاماً وأتاحت فرصة لفتح نقاشات وبلورة الكثير من المبادرات. ومن مقهى "القهوة التونسية" في نواكشط، انبثق فضاء نواكشوط الذي قال عنه علي الدمين، وهو أحد الفاعلين فيه، إنه "طاولةٌ أسبوعية حُرّة لنقاش القضايا الثقافية والفكرية والحقوقية والسياسية المطروحة في الواقع المحلي".
وشرح أنه في مساء كل يوم أحد تجري استضافة إحدى الشخصيّات الأدبية أو الفكرية أو الفنية أو الحقوقية أو الإعلامية أو السياسية، لنقاش موضوعٍ مُعيّن، يرتبط بميدان نشاط الشخصية المُستضافة. وتابع: "يجري ذلك كله في فضاءٍ عمومي مفتوح ومعروف بنواكشوط، غالباً ما يكون القهوة التونسية". وقد احتضن المقهى المذكور قبل سنوات قليلة تجربة "ملتقى 21 أغسطس" الذي سعى إلى مواكبة حراك الربيع العربي، ويعتبره الدمين "تجربة رائدة، ويُعتبر فضاء نواكشوط اليوم استئنافاً لها". وقال الدمين: "يسعى الفضاء من خلال أنشطته إلى المُساهمة في خلق مجالٍ عامّ في موريتانيا يثري الواقع الثقافي والفكري والسياسي المحلي من خلال القضايا المتنوعة التي تطرحُ للنقاش على طاولته الأسبوعية، بعيداً عن أيّة محظورات مجتمعية أو سياسية أو دينية". واعتبر أن هذا الفضاء يشكّل "مقاومةً لكل السلوكيات الإقصائية المتمثلة في التضييق والتكفير وغيرهما من الممارسات التي تقف اليوم عائقاً أمام استقرار هذا النوع من الفضاءات التقدمية الحرة في مشهدنا الحياتي اليومي". حتى الآن، استضاف فضاء نواكشوط شخصيّات من مختلف التوجهات، منها: عالم الاجتماع الكبير عبد الودود ولد الشيخ، الروائي والشاعر محمد فاضل ولد عبد اللطيف، الباحث ورئيس مركز بروكسل للدراسات الاستتراتجية بدي ولد أبنو، المناضل الحقوقي أبوبكر ولد مسعود، المؤرخ الدكتور عبد الودود ولد عبد الله، الفنان الشاب اعلي باريك، الباحثة في علم الاجتماع مريم بنت باب أحمد، الباحث يحي ولد البراء، عالم الاجتماع سعد بوه كامارا، الفنان التشكيلي ورسّام الكاريكاتور خالد ولد مولاي إدريس، الفنان الكوميدي لمرابط ولد الزين، الشاعرة مباركة بنت البراء، الباحثتين الأمريكيتين جولييت بالالاك وأرن بيتغيرو، والفنان حمادي كان الملقب بمونزا. للفضاء رواد يواظبون على حضور فعالياته. وقال المدون الشيخ مزيد لرصيف22: "يمكنُ وصف فضاء نواكشوط بالمتنفس الأخير للثقافة والتاريخ والحقوق في البلد، ويكاد يكون العجلة الوحيدة التي تحركُ الساحة الثقافية المخدرة ببؤس القبيلة، بمسرحيّيها وشعرائها واتحاداتها الباهتة، ناهيكَ بديمومتهُ المُحيرة وسطَ هذا الخمولُ الجماعي حيث لم يُعرف لمشروع كهذا أيّة استمرارية والأمثلة كثيرة". ويرى المهندس الهادي أحمد فال أن الفضاء "إثراء نوعي للساحة الثقافية الراكدة. فبإمكاناته المحدودة حقق ما لم تحققه وزارة الثقافة، إذ قدّم قامات فكرية وطنية كانت مجهولة للرأي العام الثقافي، وناقش قضايا وطنية مهمة مهملة في الإعلام المحلي". يُذكر أن الفضاء تعرّض في نسخته الأولى المعروفة باسم "ملتقى 21 أغسطس" لحملات تشويهية ممنهجة واتُّهم مرتادوه بالكفر وتخريب "القيم المجتمعية"، وهي الاتهامات التي طالت أيضاً القهوة التونسية حيث يعقد الملتقى. وأكّد علي الدمين أن "فضاء نواكشوط سيستمرّ مستقبلاً في الإبقاء على نهجه في استضافة الشخصيات الفاعلة داخل الواقع المحلي، فكرياً وثقافياً وسياسياً، بهدف النقاش والحوار على طاولتة الأسبوعية التعدديّة الحرة التي تسعى إلى خلق فاعليّة ثقافية فكرية متقدمة تُساهم في تحسين وضع البلاد على كافة المستويات".
رصيف 22