سائق الأجرة.. ملك الشارع وصعلوكه

18 أبريل, 2019 - 12:33

قد يكون "السرفيس" واحداً من اختراعات اللبنانيين. هو تاكسي مشترك، ينقل ركاباً، عبر "خط" معين، من نقطة إلى أخرى. مقابل أجر زهيد، يساوي أقل من ربع أجرة التاكسي. من زمان، قبل الحرب الأهلية، كان "خط" السرفيس واحداً. وكل الخطوط تصبّ كلها في وسط البلد. وتتوقف عند مواقف معينة، يقصدها الراكب، بحسب الاتجاه الذي يرغب بسلوكه. كان وسط البلد مقصداً شبه يومي لكل اللبنانيين. يعجّ بالمشاة ذوي المقاصد المختلفة. السيارات كانت قليلة. وعدد الناس أعلى من عدد السيارات بكثير. وسيارة المرسيدس، موديل جديد، كانت وحدها مخوَّلةً بأن تكون مرخَّصة للأجرة. ولشدّة ندْرة السيارات، كان السائق يغضّ النظر أحياناً، ومعه شرطي السير، عن القانون، فيحمّل في سيارته تسعة ركابٍ بدل الأربعة. ويستطيع أن يزاحم باص الدولة (المسمَّى "جحش الدولة") بسبب عدم تقيّده بوقت محدّد. فكانت تعريفته بالتالي أعلى بقليلٍ من تعريفة الباص. وأذكر، عندما كنا تلاميذ في ثانوية فرن الشباك وقد فاتنا الباص؛ نقرّر أن نستقل السرفيس بدله، من مسكننا في كورنيش المزرعة. وكانت التعريفة تنتقل يومها من خمسة عشر قرشاً إلى خمسة وعشرين (أي ربع الليرة اللبنانية)، فكنا نفاصله في نصف الطريق، نشّدد على الخمسة عشر، لأننا "تلاميذ"، و"ما معنا..." إلخ. داومنا على هذه المفاصلة حتى تثبتّت نهائياً تعرفة الخمسة وعشرين قرشاً. وبعدما كبرتُ قليلاً، وانتسبتُ إلى منظمة شيوعية صاعدة، كان نقاش يدور وسط إحدى حلقاتنا عن سائق الأجرة، ومحله من الطبقات. إحدى الرفيقات اقترحت أن يكون صاحب هذه المهنة من ضمن شرائح البروليتاريا، قائدة ثورتنا المباركة. فكان جواب "المسؤول" بأن لا وألف لا هذه نظرة شعبوية، فسائق السرفيس من شريحة البرجوازية الصغيرة، ولا فائض قيمة يخرج منه، ولا مصنع ينتظم بدوامه ويسهل علينا تنظيمه... إلى ما هنالك من وصايا مستوحاةٍ من أمهات كتب ماركس وإنجلز. فتوقف النقاش "الثانوي" عند هذا الحدّ، ونسينا سائق الأجرة. 
ولكن، بعد حين، كان لا بد من الملاحظة أن سائق السرفيس قد يكون منتمياً إلى طبقة سعيدة: كان مالكاً للسيارة التي يقود، شاباً متحمساً، يلبّي طلباً أعلى بكثير من عَرْضه. ونقله الركاب نزهة ("كزدورة") ممتعة، بين شوارع بيروت الواسعة المشجّرة. يشغل الراديو على فيروز، يدخن السيجارة، يستمتع باعتدال المناخ، في عزّ "الكوانين"، ويَعِد نفسه دائماً بسمكةٍ مقلية طازجة، وبطْحة عرق. 
اليوم، بعد عقود من انتهاء الحرب الأهلية، ماذا حلّ بسائق السرفيس؟ هل ما زال، "علمياً"، من فئة "البرجوازية الصغيرة"؟ حتى بشرائحها الدنيا؟ اليوم لم يَعدْ هناك من "خط"، ولا من وسط بلد يتوجه إليه المواطنون، إلا لغرض محدود، مؤقت وسريع. توزعت "أوساط" البلد بين الأحياء، وصار لكل حي، لكل بلدة، لكل قرية، وسط بلدهم. وإذا ما قصده المواطن، فدائماً بسيارته الخاصة. الآن، تفجّرت المدينة، تبعثرت، وصار يمكنكَ ان "تلقط" سيارة أجرة عند مخرج أي شارع. اختفى "الخط"، والسائق مستعدٌّ أن يوصلكَ إلى المحل الذي تبغيه. 
وبعد فوضى ضربت الخطوط كلها، كان الازدياد السرطاني لعدد السيارات الخاصة، ثم شوارع انكمشت بفائض السيارات المتوقفة والمتجولة، وأرصفة تآكلت، تمدّدت إليها العمارات البازارية. وتحول السير إلى حشد جماهيري قسري، سيّار، ورطة يومية، فلكل سيارة، خاصة أو بالأجرة، راكب واحد. وبمشاهدةٍ سريعة، تخلص إلى تفوُّق عدد السيارات على عدد المتنقلين بها، وإلى تفوق عدد المتنقلين أولئك على عدد المشاة. وسائق الأجرة في هذه الوقيعة هو صاحب المهنة الأكثر شقاء. ضياعه بين "الخطوط" المبتكرة، وغير المستقرّة، واضطراره لمعرفة أصغر زواريبها، نظراً لقلة مروءة الراكب الذي يعامله معاملة التاكسي الرخيص. ثم مزاحمته بالباصات العشوائية والفانات الفالتة، وبقية الآفات... تصل إلى نتيجةٍ أن الفوضى الطبقية أصابته، كما أصابت الفوضى المرورية الشارع. من شاب موعود بالحياة، يمارس مهنة الكزدرة، أشبه بالهواية، إلى هرِم عالقٍ طوال النهار وسط شوارع تضيق بنفسها، مختنقةٍ بتوقفها، ثم عبق المازوت المنبعث من مولدات الكهرباء والبنزين المغشوش، وشمسٌ أصبحت حارقةً وشتوات مغرٍقة. وزبائن نسوا المشي. ثم عرض أعلى بكثير من الطلب. ومعاملة المارّة على أنهم زبائن مؤكدّون، فزمور ملحاح، يكاد يبلغ الرجاء؛ بؤس يوميات ولهفة، على أي راكبٍ يغطي، على الأقل، سعر البنزين. والسيارة نفسها لم تَعُد تقتصر على المرسيدس المريحة؛ إنما أية سيارة، حتى "البيكنتو" التي تكاد تسع زبونين، فيما "تصلح" لأربعة. يدرك سائقو الأجرة أن "مهنتهم" هذه هي ابنة الضرورة القصوى والقاسية. الكهول من بينهم، وهم الأكثرية الساحقة، يفتحون قلوبهم بلا إذن، ويسردون تراجع حياتهم، وشحّ الزبائن. يشتاقون إلى الماضي، بما يوجعهم ويؤانسهم في آن. 
والشباب، النادرون من بينهم، يسارعون دائماً إلى الإعلان، قبل البدء بأي حديث، أن قيادة السرفيس عندهم ما هي إلا "لتمرير الوقت"، ريثما يحصل الواحد منهم على الفيزا إلى أفريقيا أو أميركا، أو ينتهي إبن العمّة من فتح فرن معجناتٍ في البلدة. على هذا المنوال، يعبّر الشباب عن كرههم الشديد هذه الطريقة بكسب العيش، وكلها قهر وتعب وشتائم وتوتر وشرطة فاسدة وموتوسيكلات مثل الذباب تنطّ يميناً شمالاً، بضوء أخضر أو أحمر، بالاتجاه "القانوني" أو بغيره. وسائق الأجرة هو المتهم الأول دائما من بين السائقين، هو الأدنى مرتبةً، والجميع يتصدّى له بالتدْفيش. 
وأنا أتعامل مع السرفيس منذ عشر سنوات. منذ اليوم الذي قررتُ فيه أن لا أشتري سيارة، 

وأنتقل في المدينة عبر السرفيس. صار اقتناء السيارة عندي مثل عبءٍ ثقيل، مقرونٍ بالتجهم والتوتر والشتائم واللعْنات. هكذا صار معشر سائق السرفيس من يومياتي، وتسمح الأعمار الكبيرة لكلينا، أنا وعموم السائقين، أن نتحادث من دون التباس. خلال هذا الوقت الذي أقضيه في السرفيس، عالقة، مستعجلة، أحسب الدقائق... لا يصبّرني شيءٌ قدر الحديث مع سائق الأجرة. ومع الأيام، تكوَّن لديّ انطباع أن سائق الأجرة هذا هو ملك الشارع، من دون أن ينتقص ذلك من صَعْلكته، فهو أكثر اللبنانيين وجودا في الشارع. هذا الجهنم الذي يقضي فيه معظم ساعات يومه هو أكبر مجال عام يلتقي فيه اللبنانيون، وهم محشورون داخل سياراتهم. وهذا المجال العام عرْضةٌ لأهوال يومية، سائق السرفيس هو أكثرهم ذوقاً لعذاباتها. لذلك، هو الأكثر إلماما بمجرياتها أيضاً. يعرف كل شيءٍ تقريباً مما يهم اللبنانيين: متى تنقطع الكهرباء في هذا الحي أو ذاك، أو تسير تظاهرة في حيّ، أو اعتصام، أو قطع طريق، أو إحراق دواليب، أو أسماء شوارع بيروت القديمة، أو تنقلات "الكبار" الذين يحتجزون المواطنين فيه تسييراً لمواكبهم، أو زيارات المبعوثين الأجانب والعرب، أو الأشغال العامة هنا وهناك، أو الانتخابات أو الزعماء أو يافطات المحبة لجميعهم. والسمك الذي لا بد أن يكون بائتاً، والعرق محرّماً، وبيروت القاحلة الإسمنتية... كلهم ثوريون جذريون. كلهم يريدون حرق كل هذه "النفايات البشرية والحجرية"... وإعادة بناء لبنان، الذي كان، عندما كان الشوفير مرغوباً، مكرّماً، برجوازيا صغيرا، مهتما جداً، متفائلا جداً، بسعادته في هذه الدنيا.

دلال البزري

كاتبة وباحثة لبنانية