في موريتانيا، تُخفي اللهجة العامية المستخدمة "الحَسّانية"، الكثير من التناقضات والمفارقات، تؤثر في الوقت نفسه على الناطقين بها في علاقاتهم فيما بينهم و تنعكسُ على تعاطيهم مع أمور حياتهم اليومية. في موريتانيا تتجسد في اللغة أنماط تّعبير مختلفة حاملةً معها تناقضات ومفارقات.
يشكّل الأدب الشعبي الحَسّاني مرآةً صافية تعكس بوضوح ملامحَ هذه اللهجة في بعدها الجمالي، المُتجاوز لغرض التواصل، ليتيح لمستخدميه كنايات واستعارات وتشبيهات غير مألوفة.
ومن هنا سيأتي "الشيطان" الذي يُلقي بظلاله على هذا الأدب في أغراضهِ الغزلية. الشيطان في الحسانية لا يُشبه الصورة النمطية عن الشياطين، فالشيطان في الحسانية هو رمز الجمال والجاذبية والحب، بل وقمة التّعبير عن المشاعر. فعندما توصفُ المرأةُ بأنّها "مليئة بالشيطان” فهذا يعني أنها للكمال أقرب، وغالباً ما يأتي هذا "الشيطان" بنفسٍ إيروسي مُشبع بالدلالة، وهو نفسـه "إبليس" الذي أخرجته الفنانة "حورية بنت النانّة" من عالمه الداخلي الضيق، وأطلقت العنان له ليرتع في الخارج، من خلال أداء الأغنية الشّهيرة التي صدحت بها في تونس مثلاً، حيث غنت لأحد الشعراء الذين كتبوا في هذا الأدب:
"قْبيل الدحميس بنتي/ وابلگ ذاك ابليس
يحرق بَيّ ابليس وأنتِ/ وقْبيل الدحميس"
و في هذه الكلمات التي لقيت صدىً واسعاً، يخاطب الشاعرُ المرأة َالمُولع َبها قائلاً إنها ظهرت (بانت) في المساء (الدحميس) وأثار ذلك غرور "إبليس" الذي هو "الشيطان" طبعاً، أي أنها ظهرت بكامل جمالها وجاذبيتها، فلم يتمالك الشاعر إزاء هذا المنظر الفاتن في سويعات الأصيل من أن يسب أباها -هي و"إبليس" والمساء- (يحرق بَيّ ابليس...) في ذمٍ ظاهر هو قمة المدح في باطنه
الغزل بالهجاء!
السَب، كما في المقطع السابق، ينقلنا إلى نمط تعبيري آخر أكثر تفصيلاً في الذم، وهو نوع مطوَّر مِما يُعرف في الأدب العربي بـ"المدح بما يشبه الذم"، لكن ما نحن بصدده هنا هو غزلٌ عن طريق الذم نفسِه، وليس "بما يشبهه" فقط، ويسمى هذا النمط الغزلي في اللهجة الحسانية بــ"المِقْـفِي" (أي المعكوس أو المقلوب، مشتقة من "القفا"، وتنطق القاف في هذه اللهجة عموماً مثل الجيم المصرية أو الكاف المعقودة "گ") وهو من أساليب التعبير الشائعة في الأدب الحساني، نقرأ لأحدِ الشّعراء:
"قولي لي، راجل جاك/ شيدوّر هُوّ ذاك؟!
إنتي مانك هاك/ امْرَة گاعْ سْمينة
" الرصيف 22"