لولا أن الله منّ على الأمة، بأبي عبيد، لاقتحم الناس في الخطأ". هذا الكلام، قيل بأبي عبيد، القاسم بن سلاّم (157-224) للهجرة.
ووصل أبو عبيد، إلى قمة مجد في التصنيف، فقيل فيه إنه كان الأعلم بلغات العرب، وقيل إنه كان إمام عصره وسيد دهره. حسب ما نقله ياقوت الحموي في (معجم الأدباء) وحسب غالبية من ترجم له، وهم كثرة ولا يحصون، فهو مرجعٌ لا يمكن إكمال التعرف إلى تطور وترسيخ اللغة العربية، بدون المرور به، فهو واحد من (رواد المعجمات العربية) كما يصفه الكاتب المصري الكبير عباس محمود العقاد.
ترك القاسم بن سلاّم، للغة العربية، كتباً عديدة من مثل (المذكر والمؤنث) و(المقصور والممدود) و(كتاب النسب) وكتاب (الأموال) و(كتاب الأمثال) و(ما ورد في القرآن الكريم من لغات العرب) و(الأجناس من كلام العرب) و(معاني القرآن) فضلاً عن مصنفات عديدة في الفقه والحديث من مثل: (الإيمان والنذور) و(آداب الإسلام) و(الناسخ والمنسوخ) و(غريب الحديث).
ووضع ابن سلام، للعربية، أحد أهم كتبها، وهو معجمه الذي سماه (الغريب المصنّف) والذي أخذ تصنيفه أربعين عاماً من عمره، وهو من معاجم العربية المرتب وفقاً للموضوعات وللمعاني. وفيه جمع ما اعتبره غريباً في اللغة العربية، وقدم له الشرح والتفسير.
ومن جملة ما قيل بأبي عبيد، ما يرويه الخطيب البغدادي في مصنّفه الضخم (تاريخ بغداد)، فينقل بالرواية عن سواه: "أدركتُ ثلاثةً لن يرى مثلهم أبداً، تعجز النساء أن يلدن مثلهم، رأيتُ أبا عبيد القاسم بن سلام ما مثّلتُه إلا بجبل نفخ فيه روح، ورأيت بشر بن الحارث فما شبّهته إلا برجل عجِن من قرنه إلى قدمه عقلاً، ورأيت أحمد بن حنبل، فرأيت كأن الله جمع له علم الأولين من كل صنف".
وقال الجاحظ عن القاسم بن سلاّم "لم يكتب الناس أصحّ من كتبه ولا أكثر فائدة".
ويعتبر معجمه (الغريب المصنّف) واحداً من أهم كتب اللغة العربية، وقد قسّمه في خمسة أجزاء، تبدأ بخلق الإنسان وصفات النساء، ثم صفة الجبال والأمتعة، فالإبل، ثم بقية من الطيور وينتهي بالزرع والفاكهة والرياح والأمطار، وسواها.
والكتاب، على اسمه، يأتي بالغريب من الكلام، والذي قد لا يعرف معناه حتى أبناء ذلك العصر. فكان المعجم المخصص لغريب الكلام المرتب على الموضوعات. ومن الغريب الذي يمكن أن يفيد أهل التعريب خاصة في أسماء أجزاء الإنسان: "النواشرُ، عروق باطنِ الذراع" و"الأشاجع عروق ظاهر الكفّ". و"الأسَلَة، مستدَقّ الذراع". و"الخُضمّة، عظمة الذراع". "واليَسَرَة، أسرار الكف إذا كانت غير ملتزقة".
وقد يطيب للبعض، معرفة اسم التشقق الذي يصيب الأظفار، وهي من النوادر ومن الغريب. فينقل القاسم بن سلام: "سَئِفَت يده وسعفت، وهو التشعُّث حول الأظفار". ومن الغريب: "الفَوفُ" أو "الفُوف" وهو "البياض في أظفار الأحداث". أما المنطقة التي حول الفم فاسمها "الملاغم". فيما للحفرة التي تتوسط الشفة العليا للإنسان، اسم يخصها، وهو "الحِثرمة". وغير ذلك كثير، في كل أبوابه، وجميعه نقله من أئمة العربية.
أبوه روميٌّ لا يجيد العربية فيخاطب الرجال كإناث!
ومن غريب حياة هذا اللغوي الذي وصف بأنه الأعلم بلغات العرب، في زمانه، أن أباه لم يكن يميز بين مؤنث ومذكر في اللغة العربية!
فقد كان القاسم بن سلام ابناً لـ"عبد رومي"، ولم يكن أبوه بسبب العجمة التي في لسانه، يعرف التمييز بين المذكر والمؤنث. فينقل الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت، 392-463 للهجرة، في (تاريخ بغداد) أن والد القاسم بن سلاّم قال لمعلّم يقصده: "عَلِّمي القاسم، فإنّها كيّسة!". فخاطب المعلّم بالمؤنث، وأشار إلى ابنه الذي سيصبح أحد أئمة العربية، بصيغة المؤنث، لا المذكر.
فهل قام القاسم بن سلاّم، بتأليف كتاب (المذكّر والمؤنّث) بسبب هذه الحادثة؟!ومهما يكن من أمر، فإن ابن سلاّم غيرِ المميز بين مذكر ومؤنث، في اللغة العربية، أصبح فيما بعد، أحد أئمة التصنيف العربي وقدّم الجليل لتاريخ اللغة العربية.