كتاتيب موريتانيا الوهميّة..عطاء مَن لا يملك لمَن لا يستحقّ

29 سبتمبر, 2018 - 10:04

في الركن القصيّ من مقاطعة الرياض بالعاصمة نواكشوط، يعيش الإمام (خ م س) رخاءً مادياً بعد أن ضمن الحصول على راتب، 60 ألف أوقية شهرياً، أي ما يعادل 200 دولار، من خلال التسجيل في وزارة الشؤون الاسلامية والتعليم الأصلي باعتباره إماماً ومدرّساً لـ"محظر" (كتّاب) في أحد الأحياء الشعبية بالمقاطعة. سكان المنطقة ضجوا بالشكوى من أن الرجل لا يتولى تنفيذ أي من المهام الموكلة إليه، ويحصل على راتبه بنهاية كل شهر دون عناء، لكن بلا مجيب.
يعبّر الإمام، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، عن أمله في إنشاء "محظرة" في المستقبل، موضحاً، لـ"العربي الجديد"، أنه الآن يكتفي بإمامة مسجد الحي ويأخذ راتبه الشهري المزدوج من وزارة الشؤون الاسلامية والتعليم الأصلي حتى إشعار آخر، مثله في ذلك مثل عدد من الأئمة في العاصمة نواكشوط.
لا يختلف الوضع كثيراً في حي أبيك 9 بالمقاطعة نفسها، حيث يعيش الإمام السالك على راتب شهري ثابت كمدرّس "محظري"، لكن لا وجود لمحظرته في الحي، فهي حبر على ورق أو هدية قدمت له من أحد العاملين في الوزارة، مثله مثل العديد من ملاّك المحاظر الوهمية المنتشرة في موريتانيا بشكل عام.
يؤكد السالك، لـ"العربي الجديد"، أنه يستحق امتلاك محظرة وتقاضي راتب عنها لكونه إمام مسجد وله مستوى علمياً يؤهله للتدريس والجهات المعنية تعترف له ذلك.

مصاريف ضخمة بالمجان
يكشف الإمام عبد الرحمن ولد مولود أن عدد المحاظر، (الكتاتيب)، في مقاطعة الرياض 110، "منها 30 محظرة لا توجد على أرض الواقع، بل يتقاضى القائمون عليها رواتبهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء تدريس الطلاب الذي يمثل سبباً في حصولهم على المحاظر من طرف الوزارة".
ويؤكد ولد مولود، لـ"العربي الجديد"، أن المحاظر الوهمية في المقاطعة مجتمعة تكلّف ميزانية الدولة ما يعادل 3000 دولار شهرياً دون أن يقدم القائمون عليها أي خدمات تعليمية مقابل ما يتقاضون من أموال الشعب، على حد تعبيره.
ويطالب ولد مولود الحكومة الموريتانية بوقف القائمين على المحاظر التي لا تدرّس الطلاب ومنع أي راتب شهري لهم في حالة عدم تقديمهم للدروس التي كلفوا بها وبشكل مجاني لأبناء الأحياء الشعبية.

كسب الولاء
تكشف آخر إحصائية رسمية في موريتانيا لعام 2012 أن عدد "المحاظر" في عموم البلاد 6718 محظرة، إلا أن الحكومة ظلت حتى الآن تنتهج سياسة محكمة تحظر الجمع بين الاشراف على المحاظر وإمامة المساجد من قبل الأئمة التابعين لقطاع الشؤون الاسلامية من غير مؤيدي توجهات الأنظمة والحكومات التي تعاقبت على موريتانيا.

يرى الناشط الشبابي، محمد ولد أمحمد، أن الحكومة تهدف من وراء ذلك إلى سد الباب أمام الأئمة المتحررين الذين قد يلقون محاضرات لا تخدم التوجه العام للنظام أو الذين لا تسمح لهم قناعتهم بتقاضي رواتب ليكونوا أئمة أو مدرسين تحت طلب ورغبة الحكومة.
ويؤكد ولد أمحمد، لـ"العربي الجديد"، أن تغافل الجهات الرسمية عن انتشار ظاهرة "المحاظر" الوهمية بسبب سياستها القائمة على كسب ولاء الأئمة ومدرسي المحاظر الذين يتقاضون رواتب ولا يمكنهم الحديث عمّا لا يرضي السلطة مخافة وقف رواتبهم أو استغلال الجهات الأمنية للملف ومحاسبتهم بتهمة الفساد وتلقي أموال مجانية.واعتبر ولد أمحمد أن الحكومة تتغافل عن الملف برمته كورقة رابحة تبعد من خلالها الأئمة المعارضين أو المحسوبين على تيار الاخوان المسلمين، الذين يرفضون رفضاً قاطعاً أن تكون خدماتهم العلمية تحت الطلب، كما تضغط من خلاله أيضاً على الأئمة المقربين من السلطة مخافة تقاعسهم وعدم استمرارهم في دعهما.

مطالب بوقف إهدار المال العام
يجمع سكان مقاطعة الرياض بالعاصمة نواكشوط، على عدم جدوى المحاظر الوهمية المنتشرة لكونها ترهق ميزانية الدولة بتوفير راتب للمدرسين، كما أنها تمثل عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، مطالبين بمصادرتها ومحاسبة القائمين عليها والمسؤولين الذين وفروا لهم فرصة الحصول عليها.

الناشط الشبابي في مكافحة الفساد، محمد محمود ولد البو، قال إن المحاظر الوهمية في المقاطعة تقدّر بالعشرات في الوقت الذي لا تقدم أي خدمات للمواطنين وتستنزف أموالاً طائلة من ميزانية الدولة لو تم توزيعها على فقراء الأحياء الشعبية لكان ذلك أهم بكثير من منحها لجيوب المفسدين والتغاضي عن واقع يسيء إلى رمزية المحظرة التي يدرّس فيها القرآن الكريم وباقي العلوم الشرعية.
ويؤكد ولد ألبو، لـ"العربي الجديد"، أن السلطات تتغاضى حتى الآن عن هذا النوع من المحاظر عن قصد باعتباره عربوناً يقدم للمفسدين في قطاع الشؤون الاسلامية منذ عهد الرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع، وهو عرف لا يزال سائداً.

يؤكد الشيخ ولد النهاه، أحد سكان حي ابيكه 8، بمقاطعة الرياض في نواكشوط، أن سكان الحي بحاجة لمحظرة لتدريس أبنائهم. وأوضح ولد النهاه، لـ"العربي الجديد"، أن انتشار المحاظر الوهمية في المنطقة واقع قائم وأن الجميع في موريتانيا يعرف صمت الجهات الرسمية تجاه الظاهرة التي قد تسبب اندثار التعليم المحظري الرسمي مع بقاء بعض المحاظر المملوكة لشخصيات علمية وازنة والتي يتكفّل القائمون عليها بمعيشة الطلاب ويقدمون لهم الدروس بالمجان.

محاربة الفساد شعار وهمي
يعتبر المواطن محمد يحظيه ولد محمد فال، أحد سكان حي "المنسيه" بمقاطعة الرياض، أن انتشار المحاظر الوهمية يتم عن طريق ممالأة المشرفين عليها لبعض القائمين على تسيير قطاع الشؤون الاسلامية الذي يشهد فساداً ملفتاً منذ أيام الرئيس الأسبق معاوية ولد الطائع وحتى اليوم، رغم إعلان النظام الحالي الحرب على الفساد من خلال قطع الطريق على جيوبه التي لا تزال في مأمن من المحاسبة وتضييق الخناق.
ويؤكد ولد محمد فال، لـ"العربي الجديد"، أن حالة الإمام (خ م س) لم تكن الوحيدة، فهناك العديد من أئمة المساجد في العاصمة وخارجها يتملّكون محاظر وهمية ويحصلون على رواتب شهرية دون أن يمتلكوا في الأصل محاظر، لكن البعض منهم يكتفي بإمامة أحد المساجد في الأحياء الشعبية بالعاصمة نواكشوط ويتمكن من التسجيل لدى الوزارة كمدرس محظري دون أن يمارس التدريس ليظل راتبه يصرف دون توقف.
ويرجح ولد محمد فال أن يكون التباطؤ في محاسبة المفسدين من طرف النظام الحالي وإدخال شعار الحرب على المفسدين إلى الحياة السياسية في البلد من قبيل صراع النظام مع معارضيه وفتح المجال أمام هواة الفساد ومنحهم دفعة وأملاً في الاستمرار بأعمالهم التي تنعكس سلباً على حياة السكان.

انقلاب الموازين
الشاب إسماعيل ولد سيدي محمد ـ أحد الدارسين في محظرة ـ قال إن ظاهرة انتشار "المحظرة" الوهمية في موريتانيا تم تدميرها وهو ما يعد خسارة كبيرة للشعب الموريتاني الذي كانت المحظرة وسيلة أساسية له في تدريس القرآن وباقي العلوم الشريعة واللغوية للطلاب من أجل حفظ الهوية الثقافية للشعب عن طريق تقديم خدمات نبيلة خالصة لوجه الله.
ويستغرب ولد سيدي محمد، في حديث لـ"العربي الجديد"، كيف انقلبت الأمور رأساً على عقب، معرباً عن أسفه من تحويل الكتاتيب التي تُعرف محليا بـ"المحاظر" من خدمة للتعليم المجاني للطلاب إلى وسيلة عيش لبعض المتطفلين عبر انتشار ظاهرة "المحاظر" الوهمية في بلاد "شنقيط" ـ موريتانيا ـ التي عُرفت بالإشعاع العلمي والمعرفي.
يضيف ولد سيدي محمد أن القائمين على المحاظر كانوا يتكفّلون بمعيشة الطلاب، كما كان التكافل الاجتماعي محفّزاً، إذ يتولى أهل القرية أو الحي الشعبي تقديم الغذاء للطلاب في حالة عدم قدرة المدرس على توفير ذلك، ليتفرغ هو لتعليم الأبناء جميع فروع العلوم الشرعية. لكن مع استمرار الوقت وتغيّر حياة المجتمع الموريتاني، تحولت "المحاظر" إلى وسيلة للثراء عبر نوافذ وبوابات عدة.

تغافل رسمي
على الرغم من أن وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي ومحو الأمية تتولى الوصاية على العديد من المؤسسات العلمية كالجامعات الإسلامية والمعاهد الدينية العليا والمتوسطة، ومراكز التكوين المهني، إلا أنها تتغافل حتى الآن عن تنشيط مديرية المحاظر والمعاهد الأهلية التي تضم مصلحة الدعم والتطوير، ومصلحة المناهج والمقررات، ويتضح ذلك من خلال الضغط على كلمة المحاظر بموقع الوزارة حيث يتلقى المتصفح كلمة "قيد الانجاز".
مديرية المحاظر رفضت الحديث لـ"العربي الجديد" بخصوص ظاهرة "المحاظر" الوهمية، مكتفية بالقول إنها مشغولة حالياً عن الحديث مع الاعلاميين، ويعرف عن المديرية رفضها تقديم المساعدات المالية للمحاظر التي لا توجد على سجلات الوزارة.
المحاظر الوهمية أثارت جدلاً داخل قبة البرلمان الموريتاني في تشكيلته المنحلة، إذ وجّه نائب عن حزب التجمع الوطني للاصلاح والتنمية الاسلامي، استجواباً لوزير الشؤون الاسلامية، مستعرضاً من خلاله سلسلة من المحاظر الوهمية التي قبضت مبالغ مالية معتبرة باسمها دون أن يكون لها وجود، طالباً من الوزير الحديث عن تلك المحاظر وعن المدرسين فيها، أو الإجراءات التي اتخذت لاستعادة تلك المبالغ التي تم سحبها وأرسلت في تقارير رسمية مبررة بفواتير لا وجود لها.
بين هذا وذاك، يظل المواطن الموريتاني هو المتضرر الأول من انتشار ظاهرة "المحاظر" الوهمية التي يتم عن طريقها تبذير المال العام باسم الشعب.

نقلا عن العربي الجديد