قادماً من الفلوجة شرقاً، متوجهاً إلى شقيقتها البصرة غرباً، تمر عبر بغداد بعد أن تتجاوز ملتقى طرق "أم قصر". لكنك لست في العراق، بل في موريتانيا، الذي يعتبر الكثير من سكانه أن صدام حسين "شهيد القرن"، و"سبب تعاسة العرب وبؤسهم وحروبهم المستمرة هو موته".
يمكن القول من دون أدنى مبالغة، إن صدام حسين لا يزال لليوم الرئيس العربي الأكثر شعبية على الإطلاق في موريتانيا. فالاسم السائد بين مواليد حقبة التسعينيات في هذا البلد هو صدام. ويُخلد الموريتانيون رحيل الرئيس العراقي الأسبق كل عام مرتين: مرة في عيد الأضحى، ومرة في 30 ديسمبر ذكرى إعدامه، فتنظم عدد من الأحزاب والفعاليات الاجتماعية مهرجانات تأبينية كبيرة، يحضرها كبار السياسيين والمثقفين والأدباء والفنانين وآلاف المواطنين.
وفي هذه المناسبات، يتبارى شعراء موريتانيا في تدبيج القصائد والمراثي في صدام حسين، بينما تملأ صوره المكبرة ببزته العسكرية، وسيجارته الكوبية ونظراته المظللة شوارع العاصمة نواكشوط. في الواقع الافتراضي، يغير كثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي صورهم الشخصية بصور لصدام حسين ووزير خارجيته طارق عزيز، وعزة ابراهيم الدوري، الذي يعتبرونه الرئيس الشرعي لجمهورية العراق.
تاريخ البعث في موريتانيا
سياسياً، تعود العلاقات المتميزة بين موريتانيا والعراق إلى عام 1987، حين أعلنت موريتانيا قطع علاقتها الدبلوماسية مع إيران، التي كانت في حرب مع العراق. ومذاك، توطدت العلاقات بين موريتانيا والعراق، وأصبحت بغداد أحد المدافعين النادرين الشرسين عن موريتانيا. كان صدّام حسين يعتبر أن بلاده وموريتانيا تشكلان الحدود السياسية للعالم العربي، في إطار مشروعه القومي.
وفي المجال الثقافي، كان المركز الثقافي العراقي أهم المعالم الثقافية في نواكشوط، إبان حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وفيه اعتَنقت أجيال شابة فكرة القومية العربية، وتبنت المشروع البعثي بنسخته العراقية. بموازاة ذلك، فتح صدام الجامعات العراقية أمام الطلاب الموريتانيين، الذين توافدوا بأعداد كبيرة إلى العراق، وعادوا منها مشبعين بالفكر القومي وبالبعث والاشتراكية. وتغلغل البعثيون الجدد في عمق الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في موريتانيا، فساهموا في أول انقلاب عسكري في موريتانيا في 10 يوليو 1978.
ورغم علاقتهم المتقلبة بأنظمة الحكم المتعاقبة، واصل البعثيون تأثيرهم الفاعل رافعين شعار "موريتانيا عربية"، ذلك الشعار الذي أثار غضب النخبة الفرنكوفونية المرتبطة بفرنسا. وأجج مشاعر السخط والاستياء في أوساط "الأقلية الزنجية" في موريتانيا، التي رأت في المد القومي العربي، وتنامي الشعور العروبي تهديداً لهويتها ووجودها ولمصالحها أيضاً. هذا الاحتقان العرقي بين العروبيين البعثيين والزنوج الفرانكفونيين غذى، إلى حد كبير، اندلاع الأحداث العرقية بين العرب والزنوج. والأزمة التي كادت أن تتحول إلى صراع مسلح بين موريتانيا والسينغال عام 1989. وفي غمرة تلك الأحداث أعلن صدام حسين وقوفه الكامل إلى جانب موريتانيا، وأرسلت الحكومة العراقية تعزيزات عسكرية كبيرة إلى موريتانيا. وأوفدت مستشارين وخبراء عسكريين في وقت كان الجيش الموريتاني يحشد قواته على الحدود مع السنغال. وتوجت العلاقات الموريتانية العراقية بتعيين العقيد ولد الطائع، لقياديين بعثيين بارزين وزراء في الحكومة الموريتانية. لكن العلاقة بين موريتانيا والعراق لم تلبث أن تعرضت لامتحان صعب عام 1991، حين قرر صدام حسين اجتياح الكويت.
حرب الكويت ورواتب المعلمين
غداة اجتياح الجيش العراقي للكويت، بادرت الدول العربية إلى عقد اجتماع طارئ للقمة العربية في 3 أغسطس 1990. وأصدرت الدول المشاركة في القمة قراراً بإدانة الغزو، لكن موريتانيا تحفظت بشدة على مضمون القرار، ودعا الرئيس الموريتاني حينها العقيد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، إلى "تفهم الأسباب التي حملت العراق على شن عمليته العسكرية". وأعلن ولد الطائع رفض موريتانيا إدانة الغزو العراقي". وظل التلفزيون الموريتاني يبث البيانات والأخبار الدعائية المساندة للغزو، وأغنية "نحن في الدرب رفاق"، الممجدة لصدام حسين، بصوت الفنانة الموريتانية الكبيرة المعلومة منت الميداح.
هذا الموقف الموريتاني أثار حفيظة الكويت، فأعلنت تجميد جميع أنواع الدعم والمساعدات التي كانت تقدمها لموريتانيا. وفي هذا الصدد يروي السفير الكويتي الأسبق في واشنطن الشيخ سعود الناصر الصباح، أن موريتانيا من الدول التي وقفت مع الغزو، رغـــم أن الكويت كانت تدفع رواتب المدرسين فيها، وجزءاً من رواتب الأطباء". ويضيف الصباح: "بما أن الأموال جمدت، توقفت رواتب المدرسين في موريتانيا، ومن الوقاحة أن السفير الموريتاني في واشنطن يتصل بي على الرغم من موقفهم السيئ تجاهنا، ويقول إننا أوقفنا رواتب المدرسين ويطلب أن تستمر. لكن جاءتني تعليمات من الطائف بعدم تحويل هذه الرواتب لهم وتم إيقافها."
وكان للعلاقات القوية التي جمعت صدام حسين بموريتانيا تأثيرها البارز في تدهور العلاقات بين موريتانيا وإيران، ودول خليجية وعربية أخرى. فالرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطائع، كان يعبر في أكثر من مناسبة، أن علاقة الأخوة والتحالف التي يرتبط بها نظامه مع النظام العراقي هي أولوية الأولويات بالنسبة إليه.
ولهذا السبب ازدادت عزلة موريتانيا عربياً، بسبب دعمها للغزو العراقي للكويت، وإفريقياً بسبب الأحداث العرقية مع السنغال، ودولياً بعد رفع دعاوى قضايا في أوروبا ضد نظام ولد الطائع، تحت غطاء فرنسي لاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان بحق الزنوج الموريتانيين. في المقابل، تراجعت قدرة العراق على دعم موريتانيا، نتيجة الحصار السياسي والاقتصادي، الذي تعرض له نظام صدام حسين بعد حرب الكويت. فضاق الخناق على نظام الرئيس ولد الطائع، وقرر التخلي عن حليفه العراقي، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع العراق في نوفمبر 1999.
حرب الأصدقاء: البعثيون في مواجهة النظام
في أكتوبر عام 1999 أعلنت موريتانيا افتتاح سفارتها في تل أبيب، هذا التحول الدراماتيكي فجر الأزمة بين النظام والبعثيين الموريتانيين. وتماشياً مع التوجه الجديد، سرّح ولد الطائع كبار الضباط البعثيين من الجيش والقوى الأمنية، وجرد المسؤولين الحكوميين المنتمين للبعث من مهامهم، وزج بعدد غير قليل من قيادات القوميين في السجون والمعتقلات، ولاحقت الشرطة الناشطين والمتعاطفين معهم. وأعلنت السلطات الموريتانيّة حلّ حزب الطليعة البعثي، واعتقال مؤسسيه. ثم حلّت حزب التجديد، واتهم نظام ولد الطائع البعثيين بالسعي إلى قلب نظام الحكم في البلاد. وأعلن في المقابل دعم موريتانيا للغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003. وفي 8 يونيو نفذ ضباط موريتانيون ذوو خلفية بعثية وناصرية محاولة انقلابية دامية، للإطاحة بالرئيس ولد الطائع. ورغم فشل الانقلاب فقد مهد الطريق أمام محاولات انقلابية متتالية، أدت في النهاية إلى إزاحة ولد الطائع عن سدة حكم البلاد في 3 أغسطس 2005، ليعود البعثيون بقوة إلى المشهد السياسي في موريتانيا، ويعود معهم تمجيد صدام حسين وإيديولوجيا حزبه.
أنت كردي...
لا يقتصر تأثير شخصية صدام حسين في الموريتانيين على الإعجاب الكبير به، بل إن الدعاية العراقية في أوساط الموريتانيين لا تزال تؤثر حتى اليوم في نظرتهم لتاريخ العراق واعتمادهم الكامل على الرواية الرسمية لنظام صدام حسين، عند الحديث عن الأحداث التي شهدها العراق إبان فترة حكمه. ومن المفارقات التي لا تخلو من طرافة، أن كلمة "كردي" أصبحت تطلق في موريتانيا، على الشخص الذي يجمع كل الصفات السيئة. بينما ينسب إلى الرئيس الموريتاني الحالي محمد ولد عبد العزيز، إطلاق تسمية "البشمركة" على الصحافيين الموريتانيين، يتهمهم بالولاء للخارج. وهي التسمية التي أصبحت شائعة جداً في الوسط الإعلامي، للإشارة إلى النموذج السيئ للصحافي عموماً.
نقلا عن صحيفة "رصيف" 22