تتميّز انتخابات الفاتح من سبتمبر/ أيلول الجاري في موريتانيا بأنها أكثر انتخاباتٍ في البلاد شهدت مستوياتٍ من “الهندسة”، والتوجيه والتحكم غير المسبوق من النافذين في السلطة والقوى المؤثرة، ولذلك فإنّ كسب رهان هذه الانتخابات يعتبر من الأهداف العصية على قوى المعارضة عموما، وحزب تواصل (الإسلامي) خصوصا.
حققت المعارضة نجاحاتٍ مقدّرة، طبقا للسقف الذي يتيحه ميزان القوة السياسي في اللحظة الراهنة، وهي لحظة سيئة لها، ومع ذلك، تمكّنت هذه المعارضة من تحقيق نتائج أفضل من المقاطعة السلبية التي انتهجتها 2013، بل إنها استعادت حضورها بشكل لافت في المدن الكبرى أول مرة منذ 2008.
وقد نظمت هذه الانتخابات، وسط عملية إصلاح الحزب الحاكم (الاتحاد من أجل الجمهورية) التي عرفت وصول منتسبيه إلى عتبة المليون في بلدٍ لا يتجاوز عدد سكانه أربعة ملايين شخص، منها فقط مليون وأربعة مائة ناخب، كما تجاهلت الحكومة كل الاعتبارات الموضوعية، ونظمت هذه الانتخابات في ظرفٍ بالغ الصعوبة بالنسبة للسكان في نقطة تحوّل من الصيف وجفافه إلى الخريف وسيوله وأمطاره، فضلا عن انشغال الناس بالعطلة الصيفية الدراسية وأداء آلآف الموريتانيين مناسك الحج.
شهدت هذه الانتخابات تحكّم آلاف من الفاعلين السياسيين الميدانيين في العملية الانتخابية التي
“أكثر انتخاباتٍ شهدت مستوياتٍ من “الهندسة” والتوجيه والتحكّم غير المسبوق من النافذين”
جاءت أشهرا محدودة، بعد اكتمال انتساب الحزب الحاكم الذي يعتبر منذ الستينات أداة الحشد السلطوي التي يعتمد عليها النظام وأدواته البيروقراطية، ومساندوه من طبقة “المركنتيلية التجارية” المتحالفة مع رجال الأنظمة، لاستحواذها على احتكار السوق في الإيراد والتصدير. ولذلك، يلاحظ أن هذا التحالف هو الذي يكسب باستمرار رهان الانتخابات، مهما كان الثمن.
يبدو أن ارتباط مشروع الإصلاح الحزبي بالانتخابات ولجنته الحكومية التي شكّلت ليست مقتصرةً على مجرد إصلاح هيكلي في الحزب، فقط كما يظن كثيرون، وإنما كانت إحدى أدوات هندسة هذه الانتخابات، والتحكّم فيها وتوجيهها لصالح النظام وتوجهاته الراهنة، وما تبتغيه السلطة. وفعلا يعتبر هذا العمل من التدبير الذي سيشكل نقطة تحول في تاريخ النظام وحزبه، يتحوّل به من حزب بيروقراطي إلى وضعية حزبٍ أكثر قدرة على خدمة النظام على نمط الأحزاب الشمولية التي بنتها بعض التجارب الديكتاتورية في بلدان أوروبا الشرقية، وفي أكثر من مكان. وهذا بالمناسبة نوع من تطويع كل ما في البلاد لخدمة طرفٍ واحد، ويلمح إلى أنّ كل الحراك السياسي سيكون مؤسّسا على ضمان تصدّر الحزب في كل شأن سياسي أو اقتصادي أو إداري.
شكّل التحكم في الانتخابات وفي دوائر معينة آلية جديدة، للتحكّم في رجال الأعمال، والضغط عليهم وتخويفهم، وتسليطهم على صنع التغيير الحتمي، في دوائر محدّدة لصالح الحزب الحاكم. فضلا عن توجّه الحزب مبكّرا إلى التلاعب باللائحة الانتخابية التي تحوّلت، بفعل فاعل، إلى أعضاء نشطين في الحزب الحاكم، وعبر هذا الاستنفار، استفاد الحزب من عملية القولبة والخض الذي تمت ممارسته على المستوى الوطني.
وكان هذا الحزب قد عانى من تشرذمٍ ناتجٍ عن ردّة الفعل على الترشيحات، وظهر عدد كبير من الغاضبين على الحزب، وهي ظاهرة صاحبت ميلاده، لأنه كسر قواعد كانت سائدة لدى غريمه، فهو الذي يستخدم ثنائية الخوف والطمع بشكل مختلّ، لصالح التخويف وصناعة الأمل الخادع لدى عدد كبير من قاعدته، بينما كان الحزب الجمهوري في السابق يعوّض أي منطقة عن خسارتها في الترشيحات بمناصب أخرى، أو تحريك وعود أو منح لصالحها، وبذلك كان يتغلّب على التذمّر والتنمر المرتقب من أي مجموعة مرشّحة لرفض الخيار، ويرجع ذلك إلى أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز تعمّد، في ولايته الأولى، تجاوز الأساليب القديمة للحزب الجمهوري، لكنه بدأ يعود إليها الآن، تماما كما حصل له في قضية الفساد ومحاربته، والإمساك عن تعيين المفسدين، فقد تحفّظ، في البداية، على تعيينات المفسدين، لكنه منذ العام 2011 اعتمد عليهم، وأعاد أغلبهم إلى وظائفهم الكبيرة، وتوقف عن متابعتهم.
استخدم تصويت الجيش والأمن واحدةً من آليات صناعة الأغلبية المطلقة، واستخدمت تقنيات معالجة التذمّر، في صفوف الجنود، بتوفير الملابس الجديدة وصرف مبالغ مساعدات لصالح منسوبي الجيش والأسلاك الأمنية. وعلى الرغم من المعلومات الشحيحة عن تصويت الجيش، وفرز توجهاته من خلال قراءة نسب التصويت بشكل دقيق، إلا أن من المؤكد أن نتائجه، هذه المرة، جاءت لصالح الحزب الحاكم بشكل قوي جدا، بخلاف انتخابات 2013 التي كانت نتائج الجيش فيها موزّعة بشكل أفضل لصالح مختلف الأحزاب. ولا شك أنّ نسبة كبيرة آنذاك صوتت للحزب الحاكم، ولكن ميول تصويت العسكريين للمعارضة ظهرت بارزة أيضا، ما يعكس أن تلك الانتخابات سلمت من الهندسة، لكنها شكلت عبرة للحزب الحاكم في انتخابات 2018.
وعلى مستوى بقية القطاعات الحكومية، تم تحريك أسلاك محدّدة، كالجمارك مثلا، إلى نقاطٍ
“استخدم تصويت الجيش والأمن واحدةً من آليات صناعة الأغلبية المطلقة”
معينةٍ من العاصمة نواكشوط، لمنازلة المعارضة، خصوصا في مقاطعة عرفات. وربما تكون العلاقات السياسية لأطراف النظام لعبت دورا في تحويل مئات، وأحيانا آلافٍ، من المصوتين إلى دوائر محدّدة لضمان فوز مرشحي النظام وللحصول على الحظوة، لدى هؤلاء المنتخبين النافذين، وفعلا حصل شيء من هذا القبيل في دوائر متعدّدة. كما أدى التنافس المحلي بين مختلف الفاعلين إلى تحريك كتل من الناخبين، من مدن معينة إلى مدن أخرى، لحسم الصراع فيها لصالح الأطراف القبلية المتنافسة.
وقد حقّق الإحصاء الإداري الجديد زيادة معتبرة في اللائحة الانتخابية بما يزيد على مائتي ألف ناخب، أغلبها من الشباب، وهي التي ساهمت، إلى حد كبير، في إدخال متغيّر جديد، استفادت منه بعض الأطراف، لكنه لم يحدث تأثيرا كبيرا على الحزب الحاكم الذي كان قد تحكّم في هذه العملية بما يمكّنه من الفوز والبقاء، لا بالفعالية والنجاح المؤسّسي، وإنما بأدوات سهلة وميسورة لمن يوظّف الإدارة والدولة، بما فيها رئيس الجمهورية ومقامه السامي الذي حدّده الدستور على نحوٍ يمنعه من الدخول في هذه التفاصيل اليومية للحياة السياسية، لإفسادها. والعجيب أنّ هذا المنع جاء في تعديلات دستور 2006 على خلفية تجربة الرئيس الأسبق (والذي خلع في انقلاب في العام 2005)، معاوية ولد الطائع، والتي تماهت فيها الدولة وأجهزتها مع الحزب، وهو أفسد الحياة السياسية بشكل غير مسبوق، وأضر بأمن البلاد الوطني والقومي، وكان من الطبيعي أن يكون محمد ولد عبد العزيز أكثر الرؤساء وعيا به، لأنه كان شاهدا على حالة الترنّح الخطر للكيان الموريتاني