يقول كبير الباحثين بمعهد بروكينغز جوناثان راوك إن الانفصال بين النمو الاقتصادي والسعادة الفردية بدأ منذ عقود، وإن تطور الأحوال المادية للناس بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن له أي تأثير على مستوى سعادة الفرد.
وأشار إلى أن دخل الفرد تضاعف ثلاث مرات منذ الخمسينيات، لكن النسبة المئوية لمن يقولون إنهم سعداء انخفضت قليلا.
السعادة بالمحيط المباشر
وأكد أن المبحث العلمي الجديد الذي يُطلق عليه "اقتصادات السعادة" طبع في ذهنه نتيجتين مهمتين؛ أولاهما: أن السعادة محلية ترجع إلى آثار المحيط المباشر، فازدهار المدن الساحلية الكبيرة ببلد أو انتشال نصف سكانه من دائرة الفقر المدقع لن تسعد عاملا بمصنع سيارات فقد وظيفته ويرى المدارس والمتاجر بالقرب منه تغلق أبوابها والشباب يهاجرون.
كما أن بيانات البنك الدولي تقول إن نسبة سكان العالم الذين يعيشون على 1.9 دولار في اليوم انخفضت من 44% في عام 1980 إلى أقل من 10% عام 2015، وهو إنجاز مدهش، ولكنه ليس كافيا إذا لم يتلق المرء أخبارا سعيدة من محيطه الأقرب.
الثانية: أن السعادة طبيعتها نسبية. فجميع الناس يقيسون قيمتهم ومكانتهم الاجتماعية بمقارنة أنفسهم مع الآخرين اليوم ومقارنة أنفسهم مع أنفسهم في السابق.
ووفقا للاقتصادية بمعهد بروكينغز كارول غراهام فإن البيض الفقراء أكثر شعورا بالتعاسة وأكثر تشاؤما مقارنة بالفقراء السود، رغم أن حالة البيض الفقراء المادية أفضل من رصفائهم السود.
وعلق كاتب المقال راوك على ذلك بأن هذه المعلومة لن يكون لها معنى إذا كان الوضع المطلق للفرد (أي بلا مقارنة مع الآخرين) هو الذي يحدد سعادته. لكنها ستكون محملة بالمعاني إذا نظرنا إلى الوضع النسبي.
تأثير المقارنة
فالبيض الأقل تعليما، خاصة الرجال، قد رأوا أن وضعهم النسبي ينخفض بشكل حاد مقارنة بوضع آبائهم وبغير البيض الذين بدأت أوضاعهم تتطور بعد الستينيات. أما السود، بالمقابل، فيرون أنفسهم يتحسنون أكثر مما يتوقعون ويقللون الفجوة الاقتصادية والاجتماعية.
والطرفة التي أطلقها المفكر الأميركي غور فيدال "لا يكفيني أن أنجح، بل يجب أن يفشل الآخرون" هي دقيقة بشكل مخيف.
ففي تجربة مدهشة اختيرت أسر بعشوائية من قرى كينية للحصول على مكاسب مالية كبيرة. من حصلوا على المال كانوا سعداء بالطبع، لكن سعادتهم تلك لم تكن أكبر من تعاسة الأسر الأخرى التي لم تحصل على المكاسب المالية ولم تفقد شيئا (بالمعنى المطلق)، بل رأت فجأة أنها تتأخر كثيرا عن الأسر المحظوظة بالمكاسب.
الآخرون جحيمي
وانتهى أستاذ اقتصاد السعادة البريطاني ريتشارد ليارد من مثل هذه الدراسات بالنتيجة التالية: ارتفاع الدخل المالي للآخرين يضر بسعادتك.
باختصار، عدم المساواة يجلب التعاسة. وقد أثبت العديد من الدراسات أن المناطق الأميركية التي تتصف بفجوة كبيرة من عدم المساواة تعاني من توترات واستقطاب سياسي وضعف في الصلات الاجتماعية (حتى وسط الأغنياء فيها) أكثر من تلك التي يقل فيها عدم المساواة.
إضافة إلى ذلك، ما يهم في الشعور الذاتي بالسعادة ليس الحقيقة وحدها، بل إدراك تلك الحقيقة. فإذا استمرت وسائل التواصل الاجتماعي وتلفزيون الواقع في المبالغة بعرض المليونيرات والمنازل المدهشة فيه أو إذا استمر النقاد في البرامج الحوارية في الإذاعات يصرون على أن الحكومة تأخذ من العمال البيض المجتهدين لتدعم أفراد الأقليات الكسالى، فإن مشاعر الحنق ستنمو، ولن يطفئها ما ستقوله الإحصاءات المستقلة.
وقد كتب ليارد أيضا "كل شخص سيكون أسعد إذا أصبح أغنى مالا، لكن سعادته تلك ستقل إذا رأى آخرين أكثر غنى منه. وفي هذه الحالة سيلغي غنى الآخر غنى ذلك الشخص رغم أن غناه ثابت في الحالتين".
المصدر : نيويورك تايمز