فلا تصلِي بصعلوك نَؤوم *** إذا أمسى يُعدّ من العيالِ
ولكن كلّ صعلوكٍ ضَروب *** بنصْل السّيف هاماتِ الرّجال
(الصعلوك الشاعر السلِك السعدي في وصف نفسه!)
يقول ابن منظور في قاموسه الجامع "لسان العرب": "الصُّعلوك: الفقير الذي لا مال له. ولا اعتماد". تدور معظم المعاجم العربية على هذا النحو في تعريفها للصعاليك أو الصعلوك، فهو الفقير الذي لا مال له يستعين به على أعباء الحياة، ولا اعتماد له على شيء أو أحد يتكئ عليه أو يتكل ليشق طريقه فيها، ويعينه عليها، حتى يسلك سبيله كما يسلكه سائر البشر الذين يتعاونون على الحياة، ويواجهون مشكلاتها يدا واحدة.
الفقراء البائسون!
على أن مصطلح "صعلوك" "صعاليك" يتردد بكثرة في أخبار العصر الجاهلي قبل الإسلام في الجزيرة العربية، وتقابلك كثيرا على ألسنة شعرائه ورواة أخباره. لكن في الكثرة الغالبة يدور المصطلح حول مجموعة من العرب أفراد وجماعات انقطعوا للإغارة وقطع الطرق.
وقد ميز الباحثون في تاريخ العرب قبل الإسلام بين ثلاث مجموعات منهم: مجموعة من الخلعاء الشذاذ الذين خلعتهم قبائلهم لكثرة جرائرهم مثل حاجز الأزدي وقيس بن الحدادية وأبي الطحان القيني. ومجموعة من أبناء الحبشيات السود، ممن نبذهم آباؤهم ولم يلحقوهم بهم لعار ولادتهم مثل السليك بن السلكة وتأبط شرًّا والشَّنْفَرى. ومجموعة ثالثة احترفت الصعلكة احترافًا، وحينئذ قد تكون أفرادًا مثل عروة بن الورد العبسي، وقد تكون قبيلة برمتها مثل قبيلتي هذيل وفهم اللتين كانتا تنزلان بالقرب من مكة والطائف على التوالي[1].
الصعلوك كان يصطدم بمجتمعه الذي يرى في هذه الفوضوية الفردية مظهرًا من مظاهر التمرد، وتنقطع الصلة بين المجتمع والصعلوك، فيتخلى المجتمع عنه، وتحرمه قبيلته حمايتها
وتتردد في أشعارهم جميعًا صيحات الفقر والجوع، كما تموج أنفسهم بثورة عارمة على الأغنياء الأشحاء، ويمتازون بالشجاعة والصبر عند البأس وسرعة العدو؛ حتى ليسمون بالعدائين، وحتى لتضرب الأمثال بهم في شدة العدو؛ فيقال: "أعدى من السليك" و"أعدى من الشنفرى"، وتُروى عنهم أقاصيص كثيرة في هذا الجانب؛ من ذلك ما يقال عن أحدهم ويسمى تأبط شرًّا من أنه "كان أعدى ذي رِجلين وذي ساقين وذي عينينِ، وكان إذا جاع لم تقُم له قائمة؛ فكان ينظرُ إلى الظباء، فينتقي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه، فلا يفوته، حتى يأخذه فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله"[2]. وكما كانوا يحسنون سرعة الجري والعدو كان كثير منهم يُحسن ركوب الخيل والإغارة عليها.
فلسفة الصعاليك!
لقد كان الصعلوك على هذا النحو من الأخبار التاريخية والمعاني اللغوية، يبدأ فقيرًا ثم يحاول أن يتغلب على الفقر الذي فرضته عليه أوضاع اجتماعية أو ظروف اقتصادية، وأن يخرج من نطاقه ليتساوى مع سائر أفراد مجتمعه، ولكنه -من أجل هذه الغاية- لا يسلك السبيل التعاوني، وإنما يدفعه موقفه البائس، وشخصيته غير المتعاونة إلى سلوك سبيل الصدام والصراع.
إن الصعلوك كان يصطدم بمجتمعه الذي يرى في هذه الفوضوية الفردية مظهرًا من مظاهر التمرد، وتنقطع الصلة بين المجتمع والصعلوك، فيتخلى المجتمع عنه، وتحرمه قبيلته حمايتها، ويعيش الصعلوك خليعا مشرّدًا، أو طريدًا متمردًا، حتى يلقى مصرعه، أما أعداؤه فقد استراحوا من هذا الفزع الذي كانوا يترقبونه كل حين كما يترقب غائبا "منتظرَاَ أهلُه" -على حد تعبير زعيم الصعاليك عروة بن الورد[3].
لقد استمرت مشكلة الصعاليك لفترة طويلة، يغيرون ويأكلون وينفقون على أنفسهم ومن يرونه فقيرا مثلهم من مال الأغنياء الأشحاء، ثم في أوقات الصفاء أو الكدر والعناء يبرعون فيما يبرع فيه العربي القديم، في الشعر، وقد ساعدهم على استمرار وجودهم طبيعة الجزيرة العربية القاسية، حيث الجبال والوديان الوعرة، وصعوبة اللحاق بهم، أو العثور عليهم بسهولة.
ولذلك لا عجب أن تجد في شعر العرب عامة، والصعاليك خاصة ما يصور لنا جانبا من طبيعة البيئة القاسية التي كانوا يحيون فيها، فتارة يصفون شدة البرودة، وتارة شدة الحر والهجير والرمضاء، فهذا أحدهم يقول:
ويوم من الشّعرى يذوبُ لوابه ** أفاعيه في رمضائه تتململُ
كلُّ شيء في هذه الصحراء إذن قاس وعنيف، فلا عجب أن تنجب أبناء قساة أشداء يألفونها، ويحيون فيها، لما تُيسّره لهم من الاختفاء في مجاهلها، وجبالها ومتاهاتها، لذلك نجد أن الصعاليك على الرغم من نشأتهم في أماكن قريبة من الخصب إلا أنهم يفضلون دائما أن يكونوا في كنف هذه الطبيعة صعبة المنال، فنجدهم يألفون الجبال والقفار والأماكن التي يخشى غيرهم ارتيادها[4].
حين ننظر إلى شعرهم نجده حافلا بذكر هذه الأماكن الوحشية الموغلة في الوحشة والامتناع، فالصعلوك الشاعر تأبّط شرًا يتحدّث عن موضع كان يخافه العرب لاعتقادهم أنه لا يخلو من الغول والأفاعي هذا المكان يسمى "رحى بطان"، ولكن تأبّط يألف هذا المكان ولا يخاف غيلانه وسعاليه، بل يتحدث بفخر في شعر عن قتله إحداها قائلاً[5]:
ألا من مُبلّغ فتيان فَهْمi ** بما لاقيتُ عند رحى بَطان
بأني قد لقيتُ الغول تهوي** بسهبٍ كالصحيفة صحصحانii
فأضربها بلا دهش فخرّت** صريعًا لليدينِ والجرانِ
لقد كان الصعلوك يفارق قومه، ويعارض عشيرته؛ لأنها تقيم على ضيم، وهو يأبى الضيم، ولأنها تذيع السر، وهو يحفظ السر، ولأنها تخذل الجاني بما ارتكب من جنايات، وهو ينفر من هذا الخذلان. ولذا فهو يلتمس له مضطربا في الأرض ينأى به عن الأذى، ومنعزلا فيها يشعره بالحرية والكرامة، ويقيه أسباب القلى والبغض، وهو يستبدل بأهله وعشيرته أهلا وعشيرة من الحيوان والوحش، هذه المخلوقات التي لا تذيع سرا ولا تخذل صديقا أيا كانت جريرته[6].
أمير الصعاليك!
لقد انقسم الصعاليك من ناحية النوازع الداخلية إلى فريقين، فهناك الشخصية المتمردة التي رأت في هذه الحركة فرصة سانحة تظهر فيها بطولتها الفردية، وتستغلها إلى أبعد حد في إرضاء ما في نفسها من نزعة شريرة تصبغ حياتها كلها بلون من الدم الأحمر القاني محبب إليها لا يرضيها إلا أن ترى تلك الرؤوس اليانعة، ورؤس الأغنياء المترفين تتطاير تحت ضربات سيوفها، ولا يبالون كذلك بأن يوجهوا حركتهم هذه ضد أية جماعة من الناس لا ترضى عنهم.
لكن هناك نوع آخر من الصعاليك رأت أن يكون تمردها وسيلة لغاية معينة، وهي رفع الظلم عن المظلومين، وتهيئة الفرصة للفقراء المهضومة حقوقهم ليشاركوا سائر أفراد مجتمعهم في حياة اجتماعية كريمة عن طريق إحداث نوع من المساواة، وإلى هؤلاء ينتمي أمير الصعاليك عروة بن الورد العبسي
لقد سُمي عروة بن الورد العبسي، بعروة الصعاليك كما يقول بعض المؤرخين؛ لأنه "كانَ إِذا شكا إِليه فَتى من فتيَان قومه الفقر أعطَاهُ فرسا ورمحا وقال لهُ: إِن لم تستغنِ بهما فلَا أَغنَاك الله"[ لذا كان عروةُ فارسًا لا يرى نفسه إلا مع الفقراء، ولا يحبّ إلا أن يكون الفقراء أقوياء، حتى ولو أغاروا على قبائلهم أو أعدائهم، وكان يجمعُهم ويقومُ على أمرهم ويعطيهم إذا أخفقوا في غزواتهم.
ومع ذلك كان عروةُ يكره الفقر، ويرى مآسيه في الناس والقبائل مِن حوله، لقد كان يأنف من أن ينظر الناس إليه بمنقصةٍ أو ازدراء، ولم يكن يمكث في بيته إلا قليلا، يحبّ أن يملك المال والطعام دوما، يقود الصعاليك من الشعراء والفرسان ويغير بهم على أحياء العرب، وحين سألته زوجته ذات مرة عن وجهته رد عليها قائلاً:
ذريني للغنى أسعى فإنّي.. رأيتُ الناسَ شرّهم الفقيرُ
وأبعدُهم وأهونُهم عليهم.. وإن أمسى له حَسب وخيرُ
ويُقصيه النّديّ وتزدريه.. حليلتُه وينهرُه الصغيرُ
وتلقى ذا الغِنى وله جلال.. يكادُ فؤادُ صاحبِه يطيرُ
قليلٌ ذنبُه والذنبُ جمّ.. ولكنّ الغني ربّ غفورُ
لقد كان عروة أميرا للصعاليك، محبا للصحراء والغزو، وقد كان من كبار فرسان عبس مثل عنترة ثم من كبار فرسان العرب، وقد اعترف القريب والبعيد بفروسيته وتميزه، بل حين طلق عروة زوجته، قامت في جمع الناس تعترف بخصاله قائلة: "أما أنك والله الضّحوكُ مُقبلاً، السَّكوت مدبرا، خفيفٌ على ظهر الفرس، ثقيلٌ على مَتن العدوّ، رفيع العماد، كثير الرماد (كريم)، تُرضي الأهلَ والأجانبَ"[10].
وهكذا كان الصعاليك، شرذمة من العرب طحنهم الفقر، وكونوا لأنفسهم مجتمعا موازيا بقوانين خاصة بهم، ساعدهم عليها اتساع الجزيرة العربية، ووعورة مسالكها التي اتخذوها مسكنًا وملجئًا، وفوق ذلك وجود الظلم الطبقي الذي كان يرفع الناس على أصول من الحسب والنسب والمال، فكانت إغارتهم مقاومة وغصبا في آن، ولعلنا في تقاريرنا القادمة نقف مع شخصيات من شعراء الصعاليك الآخرين ونبرز حياتهم مثل الشَّنفرى وتأبط شرّا والسليك بن السلكة وغيرهم.
محرر تاريخ