بدأ المشهد السياسي الموريتاني، أمس، دخولاً مربكًا في ساحات معركة الانتخابات النيابية والبلدية والجهوية المقررة أول سبتمبر/ أيول المقبل، حيث ارتفعت سخونة الساحة بفعل الاستعداد التنظيمي والسياسي لانتخابات جاء أشراطها واقتربت ساعة تنظيمها.
واشتكى حزب التجمع الوطني للإصلاح (محسوب على جماعة الإخوان)، وهو ثاني الأحزاب السياسية بعد الحزب الحاكم ترشحًا وترشيحًا، مما سماه «تدخل شخصيات نافذة في الدولة في مناطق مختلفة من البلاد، وتوظيفها بشكل سافر وعلني لوسائل الدولة ونفوذها في التعبئة لصالح مترشحي طرف معين في مشهد يعيد إلى الأذهان أساليب العهود الاستثنائية وممارساتها المهددة لمستقبل الديمقراطية في البلد وتنميته واستقراره».
وقدم الحزب أمثلة على هذا التدخل، حيث أكد أنه في «مقاطعة عرفات (جنوب العاصمة)، يباشر قائد الجمارك الجنرال المامي بنفسه عمليات نقل المنتسبين لقطاعه وعوائلهم وإلزامهم بالتسجيل في مكتب محدد (المكتب رقم 21 في مدرسة العروبة بعرفات) تمهيدًا لممارسة استغلال النفوذ عليهم بهدف التصويت لصالح طرف سياسي معين».
«وفي مقاطعة مكطع لحجار (وسط البلاد)، يضيف الحزب «يوجه وزير الاقتصاد والمالية آلية لحفر الآبار لمناطق مختلفة من المقاطعة ويطلق الوعود بإصلاح السدود وحفر الآبار وتوفير الكهرباء للمصوتين لقوائمه، كما تنشط في هذه الأيام آلة حفر أخرى في بعض البلديات التابعة لمقاطعة باركيول (شرق لبلاد)، يتحدث مرشحو الحزب الحاكم في هذه البلديات أنهم وراء الدفع بها في هذا الوقت بالذات لتحقيق مكاسب انتخابية على حساب حياة الناس وظروفهم الصعبة».
«إننا في التجمع الوطني للإصلاح والتنمية، نندد بتدخل الشخصيات المذكورة وغيرها واستخدامها لأساليب الترغيب والترهيب بهدف التأثير على إرادة الناخبين والضغط عليهم، في انتهاك صارخ للقانون الذي يلزم كبار موظفي الدولة بالحياد والوقوف على مسافة واحدة من جميع أطراف المشهد السياسي»، يضيف البيان.
واعتبر حزب التجمع في بيانه «أن استخدام النظام ورجاله هذا النوع من الأساليب في الأيام الأولى من الاستحقاقات الانتخابية، وبعد النزف المستمر الذي شهده الحزب الحاكم جراء موجات المنسحبين والمغاضبين، هو أبلغ تعبير عن شعور هذا النظام ورجاله بالضعف وإحساسهم بخطر الهزيمة أمام قوى المعارضة الديمقراطية وحلفها الذي يتسع يومًا بعد يوم وتتعزز فرصه في كسب رهان هذه الاستحقاقات».
وطالب الحزب «اللجنة المستقلة للانتخابات بتحمل مسؤولياتها الكاملة في ضمان شروط تنظيم انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، والوقوف بحزم في وجه تدخل بعض النافذين وسعيهم المكشوف للتأثير على إرادة الناخبين والضغط عليهم لفرض خيارات لفظها الشعب ولم يعد يلقي لها بالًا».
وكان وزير الخارجية الأسبق، محمد فال بلال، الذي عين قبل يومين رئيسًا للجنة للانتخابات، قد وجه في تدوينة له أمس دعوة «لجميع الأطراف ذات الصلة بالعملية الانتخابية، مثل القضاء والحكومة والسلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والإعلاميين والمدونين، كل من موقعه، إلى تضافر الجهود مع اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به وطننا العزيز».
ويجمع المراقبون على أن موريتانيا مقبلة على انتخابات غير مسبوقة تشارك فيها المعارضة بجميع أطيافها، وتترشح فيها شخصيات ثقافية ودينية وشبابية لم تترشح من قبل.
وتحدث السفير مختار ولد داهي، في قراءة دونها أمس للمشهد السياسي الموريتاني، عن خمس ملاحظات جوهرية له على مسار الانتخابات المقبلة، فأكد «أن أولى ملاحظاته هي التضخم العددي للترشحات، حيث تجاوز عدد اللوائح المترشحة لبعض البلديات حاجز الخمسين لائحة متنافسة، كما تجاوزت بعض الدوائر الجهوية خَطّ العشرين لائحة متنافسة!! وهو ما شوش على المنظمين وأربك المراقبين ومثل خصمًا كبيرًا من القيمة المعنوية للمترشحين».
ويرجع بعض المحللين ظاهرة التضخم العددي للمترشحين إلى بعض مقتضيات المدونة الانتخابية والقانون المنظم للأحزاب خصوصًا ما يتعلق منهما بالحل والحرمان من التمويل العمومي للأحزاب التي لم تتجاوز عتبتي (1%) و(3%) على التوالي من مجموع المصوتين بالشوط الأول للاقتراع البلدي، وكذا تشجيع «التمثيل النسبي»، وولوج الأحزاب «خفيفة الانتشار» على ولوج المقاعد البلدية والجهوية والبرلمانية.
والملاحظة الثانية التي قدمها السفير تتعلق بظاهرة «تشرذم وتفتيت المشهد السياسي، حيث لا تمثل اللوائح البلدية والجهوية المشتركة بين حزبين سياسيين أو أكثر نسبة (10%) من مجموع اللوائح المترشحة، وهو ما يُبَرًرُ بالعجز في مرحلة الشوط الأول، عن بناء تحالفات سياسية كبرى تُسهل على الناخب قراءة المشهد الانتخابي وتُيسر عليه الاختيار بين المتنافسين على أساس الرؤى والبرامج».
ولاحظ كذلك «التفاوت في التغطية الترابية بالترشحات لصالح أحزاب الأغلبية الكبرى، حيث تصدر الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، الأحزاب السياسية الوطنية بتغطية (100%) من الدوائر الانتخابية فيما تراوحت الأحزاب الأخرى «واسعة ومتوسطة الانتشار» موالاة و معارضة بين نسبتي تغطية (60%) و(25%) من الدوائر الانتخابية».
وتوقف السفير مختار ولد داهي أمام ضغط الآجال الانتخابية، فأكد أن (75%) من اللوائح المترشحة للمجالس البلدية والجهوية تم إيداعها في الساعات العشر الأخيرة قبل انصرام آخر أجل لإيداع الترشحات، كما أن المعلومات المسربة من مصالح اللجنة المستقلة للانتخابات تفيد بأن أكثر من ثلثي اللوائح البلدية والجهوية التي تم إيداعها لما تكمل ملفاتها، في حين لم يبق من الفسحة والرخصة الزمنية القانونية لإكمال الملفات المودعة إلا أقل من (48) ساعة». وتشير القراءات الأولى للمشهد السياسي الموريتاني إلى أن تنافسًا كبيرًا غير مسبوق سيندلع لا محالة، بين مرشحي الحزب الحاكم والمعارضة الموريتانية التي ألقت بثقلها في الانتخابات وهيأت آلياتها الإعلامية والسياسية لمراقبة مجريات الاقتراع، وللضغط على السلطات محاولة فرض تنظيم انتخابات حرة وشفافة، وهو ما يرى كثيرون أنه هدف سيكون من الصعب تحقيقه في الظرف الحالي. ويبقى الجانب الغامض في كل هذا هو المشهد المعاد تشكيله الذي ستتمخض عنه الانتخابات، والذي سيتحكم في مستقبل موريتانيا متعددة الأعراق كثيرة التـــناقضات.
القدس العربي