"ليس خطأً أن تعود أدراجك ما دمت قد مشيت في الطريق الخطأ" هي السياسة عندنا في حِل من التنمية و جفاء مع إرساء العدالة الاجتماعية. لا تكاد تجد حزبا يهتم سوى بالكرسي و لا يسعى إلا على التهافت عليه. كل خطابه خال ـ منذ الديباجة المنمقة بدرر الألفاظ إلى غاية الخاتمة المفتوحة عبى كل الآمال ـ من غير هذا الاهم المتأصل في نفوس قادته و الموروث عن عقلية عهود خلت في هذه البلاد التي تعرف قبل الاستعمار و مشروع "كبولاني" أي نمط أو وجه من أوجه الدولة المركزية، طبعها جميعها حب التسلط و الصراع على مرتبة إذلال الرقاب و سلب الأموال و الممتلكات و التوسع في الأطيان و الاستئثار بالجاه و القوة على مركبات مصطنعة أفرزت خلطة هجينة بين عدل "الدين" و جبروت "السيبة" توابلها الشرائح الوظيفية و قبول تقسيم الأرض افتراضيا. حقيقة مرة بعضها ما زال ماثلا و إن تستر بأوجه القبول بواقع العصر و النيل من إمداداته الفكرية و السياسية و في المدنية و ضوابطها المجحفة على عتاة بداوة تأبى أن ترحل عن العقول و في المسلكيات أو تذعن لقيود النظام في دائرة الدولة و سلطة القانون. أحزاب هذه البلاد تولد بالعمليات القيصرية في مستشفيات "الهوى" الحر بإرادة: - الحكام و مؤيديهم، - و الغاضبين من تقلب الأحوال، - و الطامعين في المناصب و الوظائف التسييرية، - و المغامرين الذين لا يهابون اللعب بالدوارة الروسية، - و أهل النشاز الفكري استعلاء و شذوذا، - و قادة الشرائحية الربحية - العنصريين بأقنعة المرحلة، - و القبليين الممسكين بخيوط الماضي الذي أنصفهم ذات عهد قريب - و المتشبثينن بالأيديولوجيات العاضين عليها بالنواجذ في عصر العلمانية السياسية و الوثنية الفكرية. و لما أن هذه الأحزاب هي جميعها التي تعمر الفضاء السياسي، فإنها بأعدادها التي تناهز المائة و لا تتوقف عن الزيادة بمقتضى الإشطارات المألوفة من بُعد عقم هي التي تسبب دوار "الأنيميا Anémie" لمواطني البلد الذين لا يتجاوز عددهم الثلاثة ملايين نسمة، و هي التي تعرقل، بميوعة خطاباتها و غياب تطبيقات عملها السياسي على أرضية الواقع في التحام بالمناضلين و المنخرطين و المؤيدين و عموم المواطنين، المسارَ العام زيادة على ما ينوء به من تناقضات لا تحتمل البلادُ تبعاتها التي لا تمتلك في الأصل تقليدا سياسيا و لا شعبها وعيا بالسياسة، و قد أرهقتهما الأحكام العسكرية أزيد من ثلاثة عقود إثر سلسلة من الانقلابات على خلفية حرب ضروس و تخلف مزمن و جفاف ماحق و مطالبات حقوقية شرائحية تزداد حدة و جرأة عاما بعد عام. و هي إذا الحالات مجتمعة التي تضخم الاجندة السياسية المثقلة بهموم التنمية المتعثرة منذ الاستقلال و لم تلق يوما أي اهتمام في أجندة الأحزاب و الحركات و لا كذلك سوء استغلال موارد البلد الكثيرة و المتنوعة و تخمر سوء التسيير و الفساد في العقول و تفشيه كالسرطان في كل أوردة قطاعات الإدارة و مصالحها و مؤسساتها. و من بعد الانقلابات أخذت الأحزاب ـ بعد تجربة ما قبل الاستقلال إلى غاية الحزب الواحد ـ مرة أخرى ترى النور من رحم التحولات التي شهدها العالم إثر سقوط قطب الشيوعية و انتشار الموجة التحررية التي اجتاحت في إثره العالم ـ على عاتقها مهمة إكمال اللوحة القاتمة، فانطلقت بأسماء مؤسسيها تؤصل للقبلية و الاثنية و الجهوية و الفئوية و تغلغل الأيديولوجيات الواردة و قد غادر أهلها سفنها بعد أن تسربت إليها مياه التحرر من الديماغوجية و الدوغماتية و تضييقهما على منطق التحليل و نبذت قيودهما التي تحجب أيضا آفاق التغيير و تمنع قيام التحول، الكل تحت مسميات مختارة و شعارات براقة لا تنقطع لصبغ الشرعية على أطرهم و ترسيخها في الأذهان و لتأييدها في الواقع حتى تتحقق بعض الطموحات التي إن انتزعت منها صفة الفردية فلن يبقى أي جوهر تقوم عليه. إنه واقع حال خبرته زعامات كل الأحزاب في الأغلبية و الموالاة باصطفافها اللامشروط إلى جانب الحزب الحاكم مقابل ضمان استقرار الحالة النفسية و المادية بما يحققه واجب الشراكة السياسية. و أما الأحزاب التي أراد زعماؤها أن تكون باجتهاداتهم، ضمن معارضة وسطية محاورة، التي لا تستند على أكثر من صنع إرادة خلق التميز عن الأغلبية "الرادكالية" من منطلق عدم الرضى عن النظام على خلفية خلافات مزمنة شكلت تراكما من التنافر و القطيعة نكصت معه الرايات البيض. و إن كلا المعارضتين المختلفتين في الطرح و الأسلوب و الخطاب و الفلسفة و المنهج لا تختلف أحزابهما في عموم الشكل و الطرح عن أحزاب الأغلبية، إذ القيادة بيد "المؤسسين" أو "المرخصين" و الخطاب بخلاف النبرة غير متعارض نظريا و يحوم حول نفس المحاور التقليدية. و هو واقع الأمر التي لا تحجبه عن المُتابع و المُهتم بالشأن السياسي الموريتاني الخلافاتُ القائمة و التنافرُ المعلن و النوايا المبيتة من ناحية، و يشي بإخفاق سياسي "بنيوي" من حيث غياب "التقليد السياسي" الذي تعرفه أمم عريقة كالهند على سبيل المثال و الباكستان و فرنسا و بريطانيا و المغرب و بالحنكة السينغال في الجوار و هي التي لم تعرف يوما الانقلابات العسكرية، من ناحية أخرى. و أما مرد ذلك فإننا ما زلنا نكابر و لا نجرأ على النقد و الجلد الذاتيين كما فعلت شعوب و دول قبل أن تجتاز مرحلة الركود و التشرذم و الانفصام عن العصر و العجز عن الاستجابة لمتطلبات الانتماء إليه و الولوج إلى مزاياه. و مما لا شك فيه أنه من أسباب الانحسار هذا المطلب عندنا هو حضور الماضي بكل جبروت عقليته و نظمه الاجتماعية التراتبية و عداوتها لأفعال البناء و العدالة و المساواة و المواطنة و النظام و مفهوم دولة القانون. و بالطبع فإن الكثيرين من قلة متعلمة تحسب في أغلبها على الثقافة و الفكر السياسي يعتقدون بشيء من الاستعلاء المعرفي و النرجسية الوراثية أن هذا الطرح اللذين هم سدنة قيام أسبابه و في أتونه غارقون طرح ساذج و أنهم تخطوا مقتضياته بكثير قيوده و إكراته، و لكنهم لوا تأملوا بكل تجرد و أبعدعوا عنهم وساوس الكبرياء لأدركوا قبل فوات الأوان الحقيقة المرة التي غيشتهم عنها المطامع الأنانية الشيقة لعرفوا أنه "ليس خطأً أن يعودوا أدراجهم ما داموا قد مشوا في الطريق الخطأ"