مع تعسّر “المشروع العربي الوحدويّ”، و”الارتباك المَرَضِيّ، والمستدام” للعلاقات العربية/ العربيّة، و”الصراع المحتدم على مدار التاريخ بين النُّظم السلطويّة والتوجَّهات الشعبويّة من جهة، وأنصار “دولة المؤسسات والقانون” من جهة أخرى داخل جامعة الدول العربيّة، ومع “أفول نجم الجامعة”، بعد إخفاقها في العديد من الملفات والتي كان من أهمها: (السوق العربيّة المشتركة)، وتطبيق (اتفاقية الدفاع العربيّ المشترك)، وفشلها المزمن في معالجة (النزاعات العربيّة العربية) وتكلّس منظومتها، وتقاعس بعض الدول الأعضاء – عمدًا – عن تطوير وتحديث ميثاقها العقيم، وما تَبِعَ ذلك من “تحييد متعمّد لـ(منظمة العمل الإسلامي) لإبقائها خارج التاريخ. ومع انطلاقة قاطرة “الهوجات العربيَّة” – المسمَّاه كذبًا وخداعًا – بـ”الربيع العربيّ” ونجاح القوى السياسية الراديكاليّة في عسكرته و”كبح عجلاته وإيقافه عن الدوران”، وتحويله من “ربيع″ إلى “خريف من الغضب” أكل الأخضر واليابس.
في خضم هذه التشابكات والظلام الدامس يبزغ هلالين في سماء الشرق الأوسط: (الهلال التركي)، و(الهلال الإيراني). فضلا عن إنَّ محاولات (التقارب التركي الإيراني) مع (المحيط العربي) بكافة أجنحته الجغرافية، والإيديولوجية، والطائفيّة باءت جميعها بالفشل وقُوبِلَت بعدها كلٌ من (أنقرة، وطهران) معًا بحرب كلاميّة ضروس من (المليشيات الإلكترونية) على مواقع التواصل الاجتماعي وحملات إعلامية منظمّة وشرسة في الصحافة المطبوعة والمرئية مدعومة من (أجندات خارجية) للإبقاء على الصراع محتدمًا بين أجنحة الأمة الإسلامية حتى لا تنعم المنطقة بسلام – باستثناء سلطنة عُمان التي تحتفظ بعلاقات طيبة مع جميع بلدان العالم – استهدفتْ هذه الحملات تلويث سمعة (الأتراك والإيرانيين) شعبويًا بهدف (إقصاء) كلتيهما من المشهد وتحت عناوين عريضة متقاربة كان من أهم نماذجها: “الأطماع التوسعية/ التمدد الشيعي” تارة، و”استعادة المجد التركي/ الفارسي التليد” تارة أخرى، و”عودة الخلافة الإسلامية من البوابة التركية”، و”إحياء مجد الإمبراطورية الفارسيّة القديمة”. محمولة هذه الحملات المسعورة على “مفردات خطاب تحريضي” مقرون بالعنف اللفظي.
ومن ثَمَّ تُثَار في هذا المقام العديد من الأسئلة في أروقة المحللين السياسيين، وتتوارد على ألسنة الكثير من المتابعين لتطورات الموقف السياسي للعلاقات العربية (التركية/ الإيرانية) على السواء ومن هذه التساؤلات: هل أدار الأتراك ظهرهم للعرب؟ ولماذا تعاونوا مع إيران؟، وما هي تداعيات التقارب الإيراني التركي على دول المنطقة؟ وما موقف القوى الكبرى (أمريكا وروسيا) تحديدًا من هذا التقارب؟
ومع تداعيات تلك الأحداث الكارثية في العالم العربي من أقصى محيطه إلى أقصى خليجه يترافق ويبزغ إلى الوجود مشروع (الشرق الأوسط الجديد) الذي بشَّرت به واشنطن وتتشكل ملامحه الآن – وما هذه اللحظة المتشابكة الخيوط التي نعيشها إلا (حالة مخاض متعسرة)، بعدها سوف يتولّد “نظام إقليمي” جديد تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد” ولا يمكن أن يَمَرَّ أو يُعْتَرَف به إلا من بوابة الدول الإقليمية الكبرى (اقتصاديا وعسكريا) والمتنفِّذة في المنطقة وفي طليعتها: (إيران وتركيا) ليدور بعدها وفقَ الخطة المرسومة له من قِبَل “سدنة النظام العالمي متعدد الأقطاب الاقتصادية”. إنّ التحوّل في الموقف التركي وتولية (أنقرة) وجهها شطر الجمهورية الإسلامية، وترحيب الأخيرة بالتعاون مع الأتراك على العديد من الأصعدة نابع من عدة قناعات يمكن إجمالها في محورين:
أولا – على صعيد التفاهمات السياسية:
أولا – أيقن الأتراك أن (الخرق اتسع على الراقع) وهناك فجوة عميقة بين (الأتراك) من جهة، و(العديد من الأنظمة العربية) لا يمكن تجاوزها وهي تتعلّق بـ(نظرية وفلسفة الحكم)؛ فتركيا “لا ترى ثَمَّة تعارض مطلقًا بين الإسلام والديمقراطية”، وتستند إلى عضويّة رصينة في حلف “الناتو” وتمثل “قاعدة الارتكاز السياسي والأمني للسياسات الغربيّة الرئيسيّة بالمنطقة”، بينما هناك (بعض الأنظمة العربية) خضعت لإملاءات وضغوط (اللوبيَّات الدينية) والتي ترى في “الديمقراطية تجاوزًا على ثوابت الدين”، ونشير هنا إلى (السلفية الجاميّة بزعامة سعيد رسلان في مصر نموذجًا).
ثانيًا – لا ينكر الطرفان (العرب والأتراك) أنَّ هناك (رحى حرب باردة) بين القوميتين ذات جذور تاريخية تعود لبدايات نشأة الدولة السعودية ونهايات أفول الخلافة العُثمانية وتجلّت في أشد صورها مع اعتلاء الإخوان المسلمين لسُدّة الحكم في مصر ودعم الأتراك لهم. ومن ثَمَّ فقد توجَّست السعودية وحلفائها من تغوّل التنظيم العالمي للإخوان وانفراده بمصر، وهو وضْعٌ من شأنه أن يجعل “دول الخليج محاصرة بين المثلث الإسلامي الأكبر المحيط بالخليج من كل جانب” ممثلا بـ(مصر وإيران وتركيا).
ثالثًا – أيقن الأتراك والإيرانيون أن الولايات المتحدة الأمريكية (تُحضِّر للإعلان عن حكم ذاتي للأكراد ولاحقًا دعم قيام دولة كرديّة مستقلة) على أجزاء من سوريا والعراق – في الوقت الآنيّ ولاحقًا إذا اشتد عودها ستفكر في ضم الأجزاءالكرديّة من تركيا وإيران بدعم غربيّ – في غضون السنوات القليلة القادمة. ومن ثَمَّ فقد أدركت حكومة كلٍّ من (أنقرة وطهران) أنه حان الوقت للتعاون والشراكة لمنع الدولة الكرديّة الوليدة المدعومة أمريكيًا من اقتطاع أجزاء من خارطة البلدين.
رابعًا – وفي السياق السابق نفسه يبدو أن (الأتراك والإيرانيين) – وفق تعبير أحد المحللين – توافقوا على “خطوط عريضة خاصة بالمسألة الكرديّة والاتفاق على احتواء “تفاعلات العنصر الكردي في مناطقهم الحدودية” نظرا للتداخل الحدودي بينهما، وأهمية المكانة التي يتبوأها كليهما في الخريطة الجيوبوليتيكة للإقليم”.
خامسًا – لقد أيقنت (تركيا) أنّ الصراع المسلح في بلاد الشام وخاصةً على الجبهة السورية ومع دخول “روسيا” على خط الأزمة وانصياع المعارضة للأجندة الدوليّة، والتوافق على عدم المطالبة بـ(رحيل الأسد)، ودعم هذا التوجّه تصريح سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي – نقلا عن وكالة انترفاكس الرسمية – “إن الولايات المتحدة تفهمت موقف موسكو بأنه ينبغي عدم مناقشة مستقبل الرئيس الأسد في الوقت الراهن”. وأيضًا التوافق على دعم نظام قيام حكم ديموقراطي علماني جديد في سوريا استتبع ذلك من الحكومة التركية تخفيف لهجتها، وإعادة رسم حساباتها وأولوياتها الجيوسياسية “وفق المتغيرات الدولية والإقليمية الجارية في المنطقة.
سادسًا – يأتي التقارب الإيراني التركي كردّ جميل للأخيرة على جهودها في دعم (طهران) أثناء الحصار الغربي لها ومعاقبتها اقتصاديا حيث “صوتت تركيا في مجلس الأمن ضد فرض عقوبات إضافية على إيران، ونجحت في مساعدة إيران على الالتفاف على نظام العقوبات الدولية عبر شراء البترول الإيراني بمقابل من الذهب.
ثانيًا – على صعيد التفاهمات الاقتصادية:
أولا – إنّ الفائدة الكبرى – اقتصاديًا -التي ستجنيها (تركيا) من وراء التعاون مع (إيران) سوف تتحصل عليها بعد تمكِّنها من ربط إيران مع ممر الغاز الجنوبي الأوروبي. عبر (مشروع تاناب) الذي يهدف إلى نقل غاز أذربيجان إلى أوروبا عبر تركيا. وكما استنتج المراقبون بأنه “إذا بدأ الغاز الطبيعي الإيراني بالتدفق إلى الأسواق الأوروبية من خلال (مشروع تاناب)، فسوف تتواجه (موسكو) مع منافس وغريم رئيسي للغاز الطبيعي لن تستطيع تهميشه أو احتوائه بسهولة”. بالإضافة إلى اتفاق بشأن زيادة الطاقة الاستيعابية لخط “بلو ستريم” الذي ينقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود مما “سيرفع حجم واردات تركيا من الغاز من 16 مليار متر مكعب إلى 19 مليار متر مكعب”.
ثانيًا – مع تراجع حجم التبادل التجاري بين “الدول العربية من المحيط إلى الخليج وتركيا” وثباته عند 53 مليار دولار في نهاية 2014، فإن الأتراك نجحوا في زيادة “حجم التبادل التجاري بين طهران وأنقرة الذي لم يكن يتجاوز مليار و200 مليون دولار عام 2002 إلى 14 مليار دولار عام 2014 ومع حلول عام 2017 وبعد تطبيق الاتفاق المبرم بين الحكومتين التركية والإيرانية عام 2016 سيصل حجم التبادل التجاري بين البلدين ليتجاوز حاجز 30 مليار دولار بحلول العام المقبل. فضلا عن “إن طهران تخطط لمحادثات مع الجانب التركي من أجل البدء في إنشاء منطقة للتجارة الحرة في (مدينة سلماس) بالقرب من الحدود التركية” -نقلاً عن السفير الإيراني في أنقرة –.
ناصر أبو عون
باحث بمركز الدراسات والبحوث – مسقط
رأي اليوم