لقد بات من المعلوم بداهة أن عواصم بلدان العالم تتمتع بأبعاد رمزية تمثل سيادة الوطن وهيبة الدولة لكونها مصدر القرار السياسي والأمني و كل ما يتعلق بقضايا الأمة. وهي فوق ذلك مقر الرئاسة والحكومة و الوزارات والمؤسسات الحيوية الرئيسة التي تدير شؤون البلد، و السلطات التشريعية والقضائية. و هي عادة ما تمتاز عن بقية المدن من الناحية العمرانية ومجمل البنى التحتية، وتقطنها غالبية السكان لكونها على العموم الأكثر نشاطاً من النواحي الاقتصادية والعلمية والثقافية والمدنية، و هي بكل ذلك تكتسب في نفوس مواطنيها كامل هيبتها ومكانتها واصفين إياها برأس البلاد ومركز النظام السياسي.
و لا شك إذا أن جزء كبيرا من التقدير المتبادل بين البلدان يرتبط إلى حد بعيد بهيبة عواصمها و الأدوار التي تلعبها على مر الزمن في كل القضايا المحلية و الإقليمية و القارية و العالمية؛ حقيقة يفرض إدراكها بقوة في هذه البلاد ما يكون من إعجاب مواطنينا بعواصم بلدان العالم من حولهم و بما يجري بينهم من الحديث المسهب:
· عن جمالها و انسيابية حركة المرور في شوارعها،
· و تعدد أنفاقها و التواء و تشعب جسورها في كل مفاصلها،
· و أناقة بناياتها المستجيبة عمليا لمتطلبات سير العمل فيها،
· و حسن أداء فضاءات الراحة و الترفيه و المتعة فيها بعد الجهد و الكدح؛ فضاءات تجد هي الأخرى ألمع تعبيراتها و أدق صورها في:
ـ الساحات العمومية الغناء بخضرتها الأخاذة و مقاعد الاسترخاء المنتشرة بين أشجارها و في جنباتها،
ـ و حدائق الحيوانات المسلية التي تقرب الزوار بحميمية من الطبيعة البرية من خلال ساكنتها الأصلية من الحيوانات بمختلف أجناسها و أنواعها و فصائلها،
ـ و المنتزهات الخضراء و حدائق الأطفال المحتوية على عديد وسائل الراحة و الاستجمام،
ـ و المنتزهات الشاطئية المزودة بأحواض مائية "الأكواريوم" التي تعرض بعض مناظر الأعماق و ساكنتها من الأسماك و الرخويات و الفقريات في محيطها النباتي و عمقها الرملي و الحجري،
ـ و المكتبات بمتنوع الكتب في شتى المعارف تحفز على اقتناء العلم بحرية،
ـ و المتاحف التي تجمع شتات التاريخ، تصيغه وعيا حيويا ناصعا للجميع ينهلون منه، يفخرون به و يتزودون منه لبناء الحاضر و استشراف المستقبل المنقى من شوائب الجهل و الظلامية و الاختلالات المضرة بمفاهيم الوحدة و اللحمة السامية،
ـ الملاعب و النوادي الرياضية التي تهتم بكل الألعاب،
ـ النوادي الثقافية المتعددة الاهتمامات من أدب و عروض مسرحية و سينمائية و فن تشكيلي و فلكلور و تاريخ و من معارض و أماسي و غير ذلك من الأنشطة التي تدعم الوعي و تفتح العقل و تهيئ المواطن لبديع العطاء،
ـ الرموز أو القطع الأثرية من التاريخ المنتشر فوق أديم البلد أو نوافير أو ساعات عملاقة في بعض الساحات و ملتقيات الطرق تبث الحيوية في العيون و تثري عقول المارة بإشارات و إيحاءات من المعرفة و التنوير و أنساق الجمال.
و بالطبع فإن العاصمة نواكشوط في حل من كل هذه الفضاءات و المنشآت و المفاهيم التي تضفي الهيبة و تفرض الاحترام و تهيئ للأدوار السياسية الكبرى. واقع أليم يكاد لا يلفت انتباها أو يصدر صوتا، و لا يحرك ساكنا أو يلقى اهتماما بضرورة تغييره. و إنه الأمر الذي يثير جملة من التساؤلات الخطيرة بحجم تردي العاصمة على هذا النحو و منذ ما بعد نشأتها بعقدين حيث كان مخططها الأول الذي صممه و وضعه قيد الإنجاز المستعمر الفرنسي و قد كان يومها مستجيبا لتطلعات مدنية عملية و الشواهد على ذلك ـ و إن لم تعد بفعل الإهمال عملية لإهمالها من ناحية و عدم التوسع فيها من ناحية أخرى ـ ماثلة و صارخة تَسخر من واقع الحال الذي تتردى فيه العاصمة و كأن البنى التحتية لا تهم في مسار المدينة التي تكتظ بالسكان و تئن تحت وطأة زحام السيارات و عربات الحمير و أمواج السائلين من كل الأعمار و الجنسيات، و انتشار البناءات العشوائية في فوضوية لا تستجيب لمعايير هندسية و لا مقاييس معمارية و لا اعتبارات مدنية. عاصمة لا مخطط معماري لبنائها و تمددها، يراعي طبيعة تربتها و يحذر المخاطر التي تتهددها من ناحية، و لا وسائل عمل ناجعة لجهاتها المختصة و لبلدياتها رغم كل الجهد الذي تبذله و جباية تحاول ضبطها، و لا بنى تحتية لاحتواء مياه الأمطار التي تغمرها كل عام و تشل حركتها، أو صرف و معالجة فضلاتها، و لا محطات لسياراتها من الخردة التي بلغت أعدادها أضعاف عدد المواطنين.
فمتى سيُدرك الجميع إذا أن جزء كبيرا من هيبة الدولة مرتبط حقا بتحقق هيبة العاصمة، المهملة من الكل سلطات و سياسيين و مجتمع مدني و مواطنين، حتى لا يظل الوضع يراوح مكانه و كأن لا جهة يعنيها الأمر بتاتا؟