
لم يشهد الوطن في تاريخه المعاصر يومًا يخلو من الجدل حول الفساد وضرورة التصدي له. فهذه الظاهرة ليست مجرد سلوك منحرف، بل هي سرطان يفتك بجسد الدولة، ويعطل مسيرة التنمية، ويقوّض العدالة الاجتماعية، ويفتح الباب واسعًا أمام الفقر والبطالة والتهميش، بل وحتى الاضطرابات السياسية.
لقد اعتاد السياسيون عند الحديث عن الفساد التركيز على سنّ القوانين ووضع الآليات وتعيين المسؤولين الأكفاء، وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب، غير أنّهم كثيرًا ما يغفلون جانبًا بالغ الأهمية، وهو أن الفساد لا يُعالج فقط بالإجراءات الإدارية، بل بمشاركة المجتمع بأسره، لأنّ جذوره تمتد في عمق النسيج الاجتماعي والثقافي، لا في أجهزة الدولة وحدها.
لقد ساهم التدهور القيمي الذي أصاب الوسط الأسري والاجتماعي في ترسيخ مظاهر الفساد وتطبيعها. فعندما يُقدِم ربّ الأسرة على سرقة الماء أو الكهرباء أمام أنظار أسرته وجيرانه، ثم يُبرَّر ذلك بالحاجة أو الفقر، يصبح هذا السلوك رسالة غير مباشرة مفادها أن الغاية تبرر الوسيلة. وهكذا ينشأ جيل يرى في التجاوزات الصغيرة أمرًا عاديًا، ليغدو الفساد جزءًا من السلوك اليومي المبرر عرفًا إن لم يكن مقبولًا ضمنيًا.
ولا يقتصر الأمر على الطبقات الشعبية، بل يمتد إلى النخب التي تتسابق إلى المناصب التنفيذية، لا بدافع الخدمة العامة، بل رغبة في استغلال النفوذ والميزانيات لتحقيق مكاسب شخصية أو تعزيز المكانة داخل القبيلة أو العائلة أو الحزب. وهنا يتحول المنصب العام من مسؤولية وطنية إلى وسيلة للتسلط وتبادل المنافع، فينعكس ذلك سلبًا على ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها.
ورغم ذلك، تبقى الجهود التي التزم بها فخامة رئيس الجمهورية، والتي تُوجتها حكومة معالي الوزير الأول المختار ولد اجاي باتخاذ الإجراءات الأخيرة في حق من ذكرهم تقرير محكمة الحسابات ووصفهم بالمقصرين، جهودًا بالغة الأهمية. فهذه الخطوات الجريئة تمثل منعطفًا حاسمًا في الحرب على الفساد، وتبعث رسالة واضحة مفادها أن مرحلة التساهل قد ولّت، وأن دولة القانون والمساءلة بدأت تترسخ فعليًا. ولا شك أن لهذه الإجراءات أثرًا إيجابيًا بعيد المدى في تعزيز الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وفي تكريس ثقافة المسؤولية والنزاهة.
إنّ أخطر ما في الفساد أنه لا يكتفي بإهدار المال العام أو تعطيل التنمية، بل يهدم القيم التي يقوم عليها المجتمع، ويحوّل السلوك المنحرف إلى قاعدة اجتماعية. ومن هنا، فإن مكافحته لا يمكن أن تقتصر على القوانين والرقابة الإدارية، بل يجب أن تبدأ من إصلاح الضمير الفردي وإعادة بناء المنظومة الأخلاقية.
فالتربية على النزاهة والصدق واحترام المال العام لا تقل أهمية عن سنّ التشريعات الصارمة. وحين يدرك الفرد أن مسؤوليته تبدأ من ذاته، وأن الصدق والأمانة قيم لا تتجزأ، يمكن حينها أن يتغيّر وجه المجتمع، وأن يتحول من بيئة حاضنة للفساد إلى قوة مقاومة له. فالإصلاح الحقيقي لا يُفرض من فوق، بل يُبنى من الأسفل: من الأسرة والمدرسة والشارع، ومن المواطن الذي يرفض أن يكون شريكًا في الفساد ولو بالصمت.

