
بعد عقود، وفي شهر يوليو، شهر الثورة، نسترجع انتماءً لم يكن لحظةً عابرةً في الوعي، بل جذوةً ما زالت تتقد في القلب والعقل معًا.
كنا أطفالًا حين وُصفنا بالناصريين، لم تتجاوز أعمارنا الثانية أو الثالثة عشر، ومع ذلك كنا نحمل في دواخلنا إيمانًا غريزيًا بوطنٍ لم نُحط بعد بجغرافيته، لكنه استقر في وجداننا كحلم، ولامسنا كقضية. وطنٌ يتسع للجميع، بلغته الواحدة وهويته الجامعة، رغم تعدد دوائره وتنوع مكوناته.
كنا نردد الشعارات كما تُرتّل الأناشيد، وننهل من الكتب لا للفهم فقط، بل للإقناع والنضال. نخوض النقاشات بشغف مَن يبحث عن موقعه في تيارٍ أعظم من ذاته. وكان مؤطرو الحركة قدوتنا؛ نستعيد خطبهم، ونحاكي نبراتهم كما يحاكي الطفل ملامح والده.
ومع مرور الزمن، تسلّل السؤال:
هل كنا نؤمن بالفكر الناصري عن وعي؟
أم أن الفراغ الداخلي، وحاجة المراهقة إلى التموضع، كانا وقود انتمائنا الأول؟
في فضاء الحركة الطلابية، كان الانتماء شرطًا للوجود، وكان الحياد عزلة. لم نحتمل الانتظار، ولم نملك ترف المسافة. فاخترنا أن نكون.
رفعنا رايات الكرامة والعدالة والوحدة، بإخلاصٍ لم يكن يحيط بكل التعقيدات. كانت صورة عبد الناصر المعلّقة، وصوته الجهوري، تجسيدًا لحلمٍ أكبر، حتى وإن غابت عنّا أدوات تحقيقه.
واليوم، لا نكفر بتلك المرحلة، بل نُعيد قراءتها بعيون الوعي، ونُخضع الحماس لمحكّ التجربة. فما يُزرع في الطفولة يحتاج دومًا إلى تصفية الذاكرة لاجتراح المعنى.
لقد حملنا قناعاتنا بصدق، وساهمنا في لحظة من لحظات التحوّل، حين أسقطنا نظام هيدالة العسكري، رغم الثمن الباهظ. فزفّت الحركة شهيدين من خيرة أبنائها: سيدي محمد ولد لبات، وأحمد ولد أحمد محمود، اللذان سطّرا بدمائهما معنى الانتماء الصادق.
ومن بقي من رفاق ذلك الدرب، ظلّ على العهد، وفيًّا للفكرة، نقيًّا في السلوك، نزيهًا في الموقف. لم تغرهم المناصب، ولم تبدّلهم التحوّلات. بقوا، مع اختلاف تموضعهم، أمناء على جوهر الفكرة: الصدق، والالتزام، والنقاء.
مثلهم أولئك الذين خدموا الفكرة في صمت، وغرسوا القيم دون ضجيج أو ادعاء. كانوا استثناءً في زمن الانتهازية، لم يساوموا على الضمير، ولم يحوّلوا المبادئ إلى سُلّمٍ للمصالح.
واليوم، وبعد عقود، وفي شهر يوليو، ندرك أن الناصرية لم تكن مجرد انتماء سياسي، بل كانت مدرسةً في الالتزام، وأفقًا لحلمٍ بالعزة والسيادة والعدالة الاجتماعية.
لم نختر عبد الناصر لأنه لا يخطئ، بل لأنّه اختار الكرامة، والمصالحة مع الذات، والعمل من أجل المبادئ. كان صادقًا مع أمته، صلبًا في وجه التبعية، وفيًّا للفقراء، متمسكًا بالسيادة، مؤمنًا بوحدة المصير العربي.
قد يخفت صوت التنظيم، لكن التيار لم يمت. بقي حيًّا في سلوك من عاشوه، وذاكرة من عرفوهم. ظلّ بوصلةً أخلاقية، نحتكم إليها كلما تداخلت المسارات وضاعت القيم.
فالناصريون في موريتانيا، كما في سائر الوطن العربي، كانوا أبناء فكرةٍ لم تنطفئ جذوتها، وإن خفت بريقها. فكرة الأمة الواحدة، والسيادة الكاملة، والعدالة الشاملة.
وإن ابتعد الزمن عن لحظة الانطلاقة، فإنه لم يُبعدنا عن احترام أولئك الذين عاشوا ناصريين ولايزالون أو اولئك الذين ماتوا ناصريين.