(0)
مع نهاية كل عام يداهمني طيفه، فتختلط نهايات الأحزان ببدايات الفرح، ويتجدد ميلاد الأمل، وتنبت في القلب أمنيات غامضة لا أجرؤ على طردها أو تكذيبها.
(1)
لا أدري إلى أين ذهب، لكنني أسمع صوته..
أكاد أرى غمزة عينه الحزينة، وطريقته في الإشاحة بوجهه ويده، ونبرته التي تتغير عندما يتحمس أحيانا للنقاش في أمر ما.
أين ذهب ذلك الولد العبيط المبلل بالخجل والمنقوع في ماء الطيبة؟
ألم تكن بيننا مواعيد أزلية متكررة، كلانا يعرف أنها لن تتم قريبا، وربما لن تتم أبدا؟
(2)
هل ضج من غيابي؟
ألم يعرف أنني مت منذ سنوات طويلة؟
كيف وقد قابلني في موتي مرات، وعاتبني بطريقته البسيطة:
يا أخي ماترجع بأه، انت عامل إيه صحيح؟
عايزين نشوفك كده..
انت مش عاوز تكتب؟.. مش قلت لي كام مرة انك هتكتب؟.. أنا مستنيك..
يبقى صديقي الكادح مكانه تحت الشمس اللافحة، واختفي أنا في عالم الموتى، يطالعني اسمه على الورق كلما نظرت نحو دنياي، وأقرأه بنفس الطريقة التي قرأته بها أول مرة، وأضحك من نفسي عندما أتذكر أنني ظللت أتعامل معه لشهور طويلة كمجرد اسم على ورقة، وأسأل صديقي الأديب الكبير: من يكون هذا الـ"الولد" الذي جئت به لينافس الكبار في مبارزات لا يقدر عليها، ويزاحم فرسان الكلام في ساحات لايعرف خريطتها؟
لم تكن الإجابات قادرة على تحويل الفتى الريفي من ورقة إلى إنسان!
(3)
في إحدى الدورات الطبيعية للأرض، وجدت نفسي في مكان بعيد وسط ناس لا أعرف الكثيرين منهم، هناك في بيت من "بيوت الخدمة" التي تتجرع رحيق الصحفيين، فوجئت بالزميل الورقة يدخل مكتبي متأبطا حقيبة جلدية سوداء، مالبث أن فتحها، وأخرج منها بعض الأوراق، أخذ يرتبها بيده، ويدق حوافها بشكل رأسي على سطح المكتب، وهو يتلفت بحثا عن "دباسة"
سألته: ماهذا؟
قال: موضوع صحفي.
قلت في سري: تاني؟.. ألا يهمد تجار الشنطة هؤلاء؟
ثمة هاجس منعني من النظر إليه، ربما لم أرتح لقامته الرياضية الفارعة، ووسامته الريفية الخشنة، وسحنته الأقرب إلى العبوس منها إلى البشاشة، وربما لم أكن أرغب في تطوير التعامل معه إلى ماهو أكثر من المهنة.. الورقة تغنيني عن الإنسان
مع الوقت بدأت أورط في الاعتياد على طريقته، وصارت عباراته القليلة التي كان يعلق بها على الأشياء والأحداث والمواقف، تربكني تماما، وصرت أنتظره، واشعر بالافتقاد عندما يتأخر في الحضور!
(4)
ذات يوم واجهت نفسي بسؤال عن سر هذه الحالة الغريبة، فوجدتني ضحلا ومنغلقا ومعقدا أمام بساطته المدهشة، اكتشفت في تصرفاته فلسفة خفية، تحولت مع الوقت إلى اتفاق نهائي مع العالم، كما لو كان يعرف مصيره بشكل مسبق، وكما لو كان يعرف أن شيئا لن يتغير للأفضل، الأسوأ يزحف بجيوش لا أحد يستطيع مواجهتها، وكلنا ضائعون في العبث مثل أبطال كافكا، ولذلك ارتضى ان تكون حياته مجرد دور مرسوم بشكل قدري لافكاك منه، وما عليه إلا أن يقوم بدوره بمنتهى الصدق مغمضا عينه عن النتائج.
منذ ذلك الحين دخلت قفص المأساة، وتطورت صداقتي معه إلى مايشبه جملة اعتذار طويلة عن جهلي وحمقي، ونظرتي القاصرة للناس.
(5)
بعد هذا الدرس صرت أكثر حرصا على معرفة الأصدقاء من دون أن أطبق عليهم أحكامي المسبقة، لكن هذا كله لم يدم، فقد استيقظت ذات مساء فوجدت نفسي ميتا، كانت الكلاب تملأ شوارع المدينة، والكلاب كما يقول مظفر النواب "سلاطين الليل"، لم يكن هناك بشر، و ثمة مسافة غامضة تفصلني عن الأرض وتجعلني معلقا في فراغ شفاف بلا جاذبية، حيث يمكنني أن أراقب كل شئ من دون أن أشارك في أي شئ، بالضبط مثل باتريك سويزي في فيلم "الشبح".
انفرط عقد الجيل، وتعفنت آلهة العجوة، وتلون الأصدقاء إلا قليلا. كان الوجع يفرض شروطه على الجميع، فمنهم من كان يغرق في مخدر المرحلة، ومنهم من كان يصرخ، ومنهم من كان يستعجل موته بحثا عن حياة أفلتت، ومنهم من كان يمضغ آلامه كالأفيون لينسى موته وويواصل الابتسام ببلاهة مصطنعة، وكان "صديقي الورقة" من هؤلاء، لم يكن لديه مايكفي لإطعام عصافير البهجة، لكنه كان يصفر لهم لحنه من الصباح إلى المساء، كبديل معنوي عن الغذاء.
(6)
لما هاتفته اضطراريا ذات ليلة، شعرت ببرودة الوحدة تسري في جسدي، كان متعبا ومريضا ووحيدا، ومع ذلك لم يشكو، ظل يسمعني باهتمام، وعندما استشعر ألمي حرضني على الأمل والعمل، وطلب مني أن أرى في الأفق غد قادم؟ وبذل مجهودا لإقناعي أن أصدق أشياء لا أراها؟، وأصبر على البلاء، كأن العالم لايقصد الإيذاء، ثم بكى!.
لم أسأله: لماذا؟
ولم يقل لي شيئا!
فقط تخلى عن عاداته كلها في الصباح التالي، لم يعد يأبه بالمواعيد، ولم يعد يأتيني حاملا أوراقه، وتعليقاته، وابتسامته سابقة التجهيز التي يداري بها أوجاعه الوفية
لم يعد يفعل كل ذلك، لأنه ببساطة، مااااات.
(7)
مرت سنوات على ذلك الصباح القاسي، ومازلت أنتظره، في كل الأماكن التي أعمل بها، في رنة الهاتف ليلا، في غربة الريفي عندما تقهره القاهرة، وفي الأحلام التي لاتتحقق.
لم أصدق أبدا أن هذا الولد يمكن أن يموت.
هل يموت الولد الأبدي الذي دعاني مرارا للعودة من الموت، أظنه يعرف كيف يتحايل على موته، ويعرف كيف يهزم الهزائم، كما كان يعرف متى يغضب ومتى يسامح؟.. أظنه سيرواغ الموت قليلا ثم يعود، لذلك سأنتظره لأبشره بأنني عدت، سأنتظره ليحكي لي عن رحلته، ربما أعاتبه على غيابه الغامض كما عاتبني من قبل، لكن حتى يعود لا أحب أن أخمن أين يكون؟، حتى لا أخطئ في تقديره ثانية.
فقط سأردد ماقاله أراجون عن بابلو نيرودا عندما اختفي فجأة من شوارع تشيلي: من يدري أين بابلو؟.. أنا لا أدري، لكنني أسمع غناءه!
(0)
* أن تموت محبوبا خير لك من أن تعيش مكروها
(من وصايا نادم عاش مكروها)
جمال الجمل