
في لحظة بالغة الدقة من التحولات الديمغرافية والأمنية التي تشهدها المنطقة، طرح معالي وزير الداخلية سؤالًا مباشرًا أمام المؤسسة التشريعية:
“لماذا يرفض المهاجر أن يسجل للحصول على الإقامة بشكل مجاني؟”
سؤالٌ يُحسب له من حيث الصراحة والجرأة، إذ يكشف في عمقه عن مقاربة سيادية تتجاوز البُعد الإداري لتلامس المسكوت عنه في ملف الهجرة والاختراقات التي ترافقه.
هذا السؤال في مضمونه ليس فنيًا ولا بيروقراطيًا، بل هو سؤال كاشف عن خلل استراتيجي، يستدعي قراءة معمقة ضمن سياقين اثنين: سياق التحول الديمغرافي غير المتحكم فيه، وسياق التدافع الجيوسياسي في المنطقة، حيث أصبح التجنيس والتوطين أدوات في الصراع الناعم على الخرائط السكانية
أولًا: الامتناع عن التسجيل… مؤشّر وليس ظاهرة منعزلة
من الناحية الظاهرة، يبدو غريبًا أن يرفض شخص مهاجر، غالبًا ما يفر من الفقر أو التهديد، الاستفادة من إجراء قانوني ومجاني يُشرعن وجوده ويمنحه فرص العمل والحماية. غير أن هذا الرفض – عند فئات محددة من المهاجرين، خصوصًا من دول الجوار أو إثنيات متقاربة – لا يمكن تفسيره إلا كـسلوك موجه. وهو ما يؤشر إلى:
• وجود توجيه خارجي أو داخلي بعدم التسجيل، ضمن خطة تهدف إلى تفريغ الدولة من أدوات ضبطها لملف الهجرة.
• رغبة ضمنية في البقاء في الظل القانوني، مما يُتيح لهؤلاء الأفراد التحرك بحرية خارج رقابة الدولة، أو الاستفادة من وضعية الهشاشة للمطالبة لاحقًا بالتسوية الجماعية.
• ارتباط الامتناع بمنظومات سياسية أو حقوقية مؤدلجة، تعمل على خلق سردية مظلومية مكرّسة، تجعل من “المهاجر غير المسجل” أداة للضغط الإنساني والإعلامي.
في أدبيات الأمن الديمغرافي، هذه الممارسات تندرج ضمن ما يُعرف بـ “الهجرة الموجهة” (Directed Migration)، وهي استراتيجية تُستخدم في بعض السياقات لتغيير التوازنات السكانية، كما أشار إلى ذلك الباحث الأميركي Kelly M. Greenhill في كتابه “Weapons of Mass Migration”.
ثانيًا: التوطين والتجنيس… أدوات ناعمة لاختراق السيادة
حين يمتنع المهاجر عن التسجيل، فهو يحتفظ بوضعية قانونية مرنة تتيح له ممارسة التوطين غير الرسمي، خاصة حين يُقرن ذلك بـ:
• الإقامة العشوائية في مناطق طرفية أو رخوة إداريًا.
• الزواج من نساء محليات، في أحيان كثيرة ضمن صفقات اجتماعية أو دينية مبطّنة.
• إنجاب أجيال هجينة تُطالب لاحقًا بحقوق المواطنة بالاستناد إلى المولد أو الارتباط الأسري، في تكرار لنموذج “التجنيس بالتماهي الإنساني”.
وتتضاعف خطورة هذه الممارسات حين نلاحظ تواطؤًا غير معلن من بعض المنظمات الحقوقية الدولية أو المحلية التي تسعى – بذريعة حقوق الإنسان – إلى حماية هذا الوجود غير النظامي، بل إلى تشريعه. وهنا يصبح الحق الإنساني واجهة لاختراق سكاني منظَّم.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى ما وصفه الباحث Stephen Castles بـ”الهجرة كعامل في التحول الاجتماعي”، حيث يتحول المهاجر من عنصر اقتصادي إلى عنصر بنيوي في إعادة تركيب المجتمع المضيف.
ثالثًا: شبكات التنظيم والتأطير: من الظل إلى الواجهة
تشير التقارير الميدانية والاستقراءات الميدانية إلى وجود شبكات منظمة تعمل على تأطير المهاجرين، بعضها يمتلك تمويلًا خارجيًا، وبعضها الآخر يرتبط بجهات سياسية داخلية لها مصلحة في خلق كتلة بشرية جديدة تُستثمر انتخابيًا أو اجتماعيًا.
هذه الشبكات تعمل وفق منطق “الهيمنة الهادئة”، وتستخدم أدوات مثل:
• نشر ثقافة الرفض للتسجيل تحت ذريعة الخوف أو عدم الثقة في السلطات.
• تشجيع الزواج والاندماج دون تأطير قانوني.
• الضغط الإعلامي والحقوقي لتسويق خطاب “المواطن البديل”.
إنها باختصار آلية هجينة تجمع بين الهجرة والاختراق السياسي والديمغرافي، وهو ما يضعنا أمام واجب استراتيجي لمواجهته بالوسائل القانونية، والأمنية، والأخلاقية في آنٍ معًا.
رابعًا: من يملك الإجابة على سؤال الوزير؟
ليس من الإنصاف أن يُترك هذا السؤال الخطير معلّقًا، بل يجب أن تتوزع الإجابة بين مستويات متعددة:
1. وزارة الداخلية: لتوفير المعطيات الإحصائية ومناطق التركز ونسب الامتناع.
2. القطاع الأمني والاستخباراتي: لتقديم تحليل سلوكي للممتنعين عن التسجيل وتحديد الارتباطات الشبكية أو الإثنية.
3. مؤسسات المجتمع الأكاديمي: لرصد الظاهرة في بعدها التاريخي والجيوسياسي.
4. البرلمان: لسَن تشريعات صارمة تقطع الطريق أمام التوطين غير المشروع، وتحمي سيادة الدولة ومركزيّتها الديمغرافية.
5. الجهات القضائية: لملاحقة من يُسهّلون هذا المسار أو يُحرّضون عليه، داخليًا أو خارجيًا.
خاتمة: بين السيادة والانفتاح… الحذر واجب
الدولة ليست مؤسسة خيريّة، والسيادة لا تُدار بالعواطف. والسؤال الذي طرحه معالي الوزير ينبغي أن يُرفع إلى مرتبة التحذير الاستراتيجي. فحين تصبح الهجرة غير المسجلة وسيلةً لاختراق الدولة من الداخل، وتفكيك تماسكها الديمغرافي، فإن الأمر يتجاوز الحقوق الإنسانية إلى مسألة وجودية تمس مستقبل الوطن.
لذلك، فإن حماية المجال السكاني الوطني لم تعد ترفًا، بل مسؤولية سيادية تستدعي يقظة الدولة والمجتمع معًا، قبل أن نُفاجأ بأمر واقع لا يمكن التراجع عنه.