لمعرفة حقيقة المعادلة العالمية الحالية، بين الغرب السّائد والإسلام الصّاعد والعدو الصهيوني البائد، في هذه العلاقات المعقّدة المتوترة والصّاخبة، يمكننا الوقوف على ما كتبه رئيس وزراء بريطانيا الجديد “كير ستارمر” زعيم حزب العمال في مقال خطير وفاضح لهذه العقلية الغربية الاستعمارية المتوحّشة في نظرتها إلى الإسلام، وذلك في الصحيفة البريطانية العريقة “ذا صن”، وخاصة بعد الصدمة الاستراتيجية المذهلة للغرب المتصهين في معركة “طوفان الأقصى” يوم 07 أكتوبر 2023م، والتي شكّلت تهديدا وجوديّا لأهمّ وأخطر مشروع استعماري غربي في قلب العالم العربي والإسلامي، وهو المشروع الصّهيوني، الذي يواجه أطول وأخطر مواجهة في تاريخه ومنذ تأسيسه سنة 1948م.
بدأ “ستارمر” مقاله بوجوب الصدق والوضوح في العلاقة بين الغرب والعالم العربي والإسلامي، وقول الحقيقة للأجيال الجديدة في الغرب حتى لا يقع التصادم معها، ولا التناقض بين إيمانهم بالقيم الليبرالية واحتياجات أمنهم القومي، والذي يفضح هذا التناقض بشكلٍ مخيف من طرف هذه الثورة المعرفية، وتطورات التقنية المعلوماتية، والانفتاح العالمي عبر مختلف وسائط التواصل الاجتماعي.
ثم يعترف بأنّ الخلافات الحقيقية ليست مع الشعوب العربية والإسلامية، ولا مع الأنظمة الحاكمة التي تستمد بقاءها من المنظومة الغربية، وتنفّذ السياسات التي تخدم الأمن القومي الغربي، ولو على حساب أمنهم القومي، ثم يتساءل: أين تكمن حقيقة الأزمة في علاقاتنا بالعالم الإسلامي ككل، والعالم العربي كونه مركز هذا العالم؟
ويسترسل رئيس وزراء بريطانيا الجديد، كير ستارمر، في الإجابات الواضحة عن هذا التساؤل الجوهري، فيقول: “إنّ مشكلتنا الحقيقة تكمن في الإسلام ذاته، ومع محمد، نبيّ الإسلام نفسه، لأنه دين حضاريّ يمتلك الإجابات التفصيلية لكلّ الأسئلة الوجودية والحضارية، وهو منافس عنيد للحضارة الغربية التي بدأت تفقد تألّقها، بينما الإسلام ومحمد يزدادان تألقا حتى داخل مجتمعاتنا الأوروبية، التي أتاحت لها القيم الليبرالية حرية التفكير، وأضعفت سلطة الكنيسة، وهذا التفكير الحرّ المجرّد قاد الكثير من النخب والشباب إلى اعتناق الإسلام، لأنهم وجدوا فيه كلّ الإجابات عن احتياجاتهم النفسية والرُّوحية والوجودية والاجتماعية التي أغرقتهم فيها حضارتنا المتناقضة”.
ثم يعترف ستارمر بكلّ وضوح بأنّ المشكلة الحقيقية مع الإسلام ستبقى، لأنه لا خيار لهم إلا مواجهة هذا التدفّق الإسلامي بشتّى الطرق، لأن الخيار البديل عن ذلك هو الاعتراف بالإسلام بأنه دينُ الله الحق، ودينُ المسيح وجميع النبيين الذي يجب اعتناقه، وهو ما سيعيدهم إلى المربع الأول في صراع “الدين والدولة” في الفكر المسيحي.
ثم يصرّ على أنه لا يوجد هناك خيار إلا مقاومة الإسلام، ولو أدّى ذلك إلى التخلِّي عن هذه القيم الليبرالية الحداثية الغربية، ووقف هذا الزَّحف الأخضر على الغرب، وتخيير المسلمين فيه بين الانصهار في هذه الحضارة الغربية أو التخلّي عن إيمانهم بهذا الإسلام.
ثم يكشف عن طبيعة الوجود الصهيوني في قلب العالم العربي والإسلامي، وخلفية هذا الدعم الغربي المطلق للكيان الصهيوني، رغم تلك الفاشية والنازية التي يمارسها أمام مرأى العالم ومسمعه في فلسطين والمنطقة، وتحديدا بعد شعوره بالخطر الوجودي، وخوضه معركة البقاء الثانية، وهو يواجه مقاومة عقائدية، متعدّدة في الجبهات وممتدة في الساحات، مع العجز عن تحقيق أهدافه، بعد أكثر من سنة كاملة من الوحشية المطلقة، فيقول: “يجب الاستمرار في دعم إسرائيل مهما كانت إجراءاتها قاسية، حتى لا تسمح بإقامة نواة لنظام إسلامي في غزة، يشجّع الشعوب الإسلامية على احتذاء التجربة، ويجب الاستفادة من الدعم الكبير الذي تحظى به إسرائيل من الدول العربية، التي تخاف من قيام أيّ نظام إسلاميّ أو ديمقراطي… وهذه نقطة مهمة، وهي دعم الأنظمة العربية ومؤسساتها وجيوشها وأجهزتها المختلفة، التي تمنع قيام أيّ نظام يستمدّ قيمه من تعاليم محمد، ومن كتابه المقدس”.
ولتحقيق ذلك، وحتى لا يتوغّل الإسلام أكثر في الغرب، يقول إنه: “لا يهمّ إن كان ما نقوم به خطأً أو باطلا، شرعيّا أو غير شرعي… نحن أمام تحدّ كبير بين قيمنا الليبرالية وأمننا القومي -وهما الآن قيمتان متناقضتان- وبين الزحف الإسلامي المنبعث من كل مكان في العالم… يجب أن لا نختبر صوابية القيم الإسلامية أو خطأَها، لأنّ ذلك قد يقود أكثرنا إلى الإسلام والقيم الدينية المحمدية..”.
هذا التخبّط الغربي في التعامل مع الإسلام، ومع مَن يؤمنون به عقيدة وشريعة ومنهاجا يجعل القادة الغربيين في حالة تيه، بسبب ما يقوله: “نحن الآن بين خيارات متناقضة ومخيفة، لأنّ الاستمرار في خياراتنا الليبرالية يُفقدنا الحصانة من الزّحف الإسلامي، والعودة إلى الكنيسة يهدم قيمنا الليبرالية، ويؤثّر على منجزاتنا الحضارية، وقد نشأت أجيال في الغرب لا تؤمن بالمسيح، ولن تستطيع العودة إلى الكنيسة، بعد رياح الانفتاح غير المحدودة”.
ويختم “الوزير الأول” البريطاني مقاله بالخشية من ألَّا يجد قادة الغرب في المستقبل إلا خيارا واحدا، وهو الدفع نحو حرب كبرى في الدول الإسلامية، تحدُّ من الحريات، وتربك الحياة العامّة، وتُشعل الفتن غير المتناهية، والتي تفقد الإسلام مناخ انتشاره وانتصاره.
هذه المقالة لا تختلف عن المقولات التي بشّر بها “صموئيل هنتنغتون” في كتابه “صدام الحضارات” منذ سنة 1993م، والتي كانت ردّا على تلميذه “فرانسيس فوكوياما” في أطروحته “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” منذ سنة 1989م، والذي يعتبر “الديمقراطية الليبرالية” بعد نهاية الحرب الباردة هي ذروة الحضارة وأنموذج الكمال البشري، فيرى “هنتنغتون” أن هذه النظرة قاصرة، وأنّ هناك إعادة لتشكُّل النظام العالمي، وسيكون هناك صدام بين الحضارات، وسينتقل وقود الصراع من “النزاع الإيديولوجي” إلى المحرّك الرئيسي لها وهو الاختلافات الدينية والثقافية، وركّز على الإسلام، وقال إنّ “حدوده دموية”، فهو كما انتقده “إدوارد سعيد”: قام بتجسيد كيانات ضخمة وواسعة، تسمى “الغرب” و”الإسلام” بتهوّر.
يعتقد البعض أنّ هذه الحروب التي لا تتوقف عن عالمنا العربي والإسلامي مرتبطة فقط بالمصالح الاقتصادية كالثروات الطبيعية مثل الغاز والبترول، أو بالموقع الإستراتيجي والعوامل الجيوسياسية، وبالرغم من وجاهة المنطق والموضوعية في تبرير ذلك، إلا أنّ البعد الحضاري والديني لا تخفى دوافعُه الصارخة، بعد أن سقطت الأقنعة التي غلَّف الغرب بها وجوده في المنطقة، وقد صدق الله تعالى إذ يقول: “.. وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”، (البقرة:217).
وفي الوقت الذي اعتبر فيه “هنتنغتون” كما لو كان نبيّا بعد أحداث 11 من سبتمبر 2001م، صاغ تلميذه “فوكاياما” بعد تلك المناسبة الهوليودية مقولةً أكثر وضوحا وعدائية، في كتابه: “الحرب داخل الإسلام”، وحلّل فيه الأسباب الحقيقية للعداء بين الغرب بقيادة أمريكا وبين الإسلام، معترفا بأنّ: “المسألة ليست ببساطة حربا على الإرهاب”، وتحدّث عن التطور الأهم الذي يجب أن يحدث للإسلام، بغية تغييره وتعديله، بشرط أن يكون ذلك من داخله، حتى يصبح قابلا لقيم الحداثة الغربية وأفكارها، ولا يهمّ أن يجري ذلك التعديل بطريقة ناعمة أو بطريقة عنيفة، يقول: “إنّ التطور الأهم ينبغي أن يأتي من داخل الإسلام نفسه؛ فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرر فيما إذا كان يريد أن يصل إلى وضع سلمي مع الحداثة، خاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية..”.
والإسلام الأمريكي الذي يريده هؤلاء هو “الدين الناعم”، المقتصر على الشعائر التعبدية في العلاقة الخاصة بين العبد وربّه فقط، ولا علاقة له بمقاومة الاحتلال، أو بإقامة الدولة والنهضة والحضارة.
يجيب رئيس وزراء بريطانيا الجديد، كير ستارمر، عن هذا التساؤل الجوهري، فيقول: “إنّ مشكلتنا الحقيقة تكمن في الإسلام ذاته، ومع محمد، نبيّ الإسلام نفسه، لأنه دين حضاريّ يمتلك الإجابات التفصيلية لكلّ الأسئلة الوجودية والحضارية، وهو منافس عنيد للحضارة الغربية التي بدأت تفقد تألُّقها، بينما الإسلام ومحمد يزدادان تألقا حتى داخل مجتمعاتنا الأوروبية، التي أتاحت لها القيم الليبرالية حرية التفكير، وأضعفت سلطة الكنيسة، وهذا التفكير الحرّ المجرّد قاد الكثير من النخب والشباب إلى اعتناق الإسلام…”.
ولن يتحقق ذلك إلا بإثارة الشكوك والمغالطات داخل منظومة هذا الدين، وتصويره بأنه “دين العنف والإرهاب”، وأنّ حدوده “حدود الدم” بسبب الحروب الأهلية والصدامات الداخلية، فينفضّ المسلمون عن الإسلام، ويقبلون على النموذج الغربي، فيتحقّق الهدف من هذه الفتن، وهو تطويع الإسلام لقبول النموذج الغربي، ومن ثمّ الوصول إلى الهدف النهائي، وهو “نهاية التاريخ” بشكل أشمل، إذ ينتصر الغرب ويهيمن على العالم كلّه.