لبنان مرتع خصب لأجهزة الإستخبارات الدولية وموطن لها قديم وخاصة المخابرات المركزية الأمريكية ، فعلاقة اللبنانيين بأمريكا تاريخيا معروفة ؛ هاجر نحوها منهم الآلاف منذ قرون فامتزج الدم بالدم ووصل بعض اللبنانيين لمراكز هامة في صناعة القرار في أمريكا القارة عموما والولايات المتحدة خصوصا ولا يوجد مرفق في الولايات المتحدة يخلو من لبنانيين وليست المخابرات المركزية استثناء.
ورغم التمايز السياسي والطائفي الكبير للمجتمع اللبناني إلا أن جغرافية البلد الضيقة - في حدود عشرة آلاف كيلومتر مربع - تفرض تداخلا مجتمعيا قويا يسهل معه التنصت والتعقب والتخابر مما يسهل إلى حد بعيد عمل الإستخبارات ويوفر حرية العمل والأمان للمخبرين عموما والغربيين منهم على وجه الخصوص ولبنان السياسي منتج فرنسي بكامله ولفرنسا حضور كبير في كل مدينة فيه وكل ضيعة وما زال الفرنسيون إلى اليوم ينظرون للبنان كما لو أنه محمية فرنسية......
ثم إن إسرائيل لا تملك من القوة التكنولوجية إلا ما توفره لها أمريكا ، والموساد قوي بأمريكا وبالغرب عموما وله أذرع طويلة من خلال تغلغل رأس المال اليهودي في مراكز صناعة الثروة والسياسة والمال في الدول الغربية ما بعد الحرب الثانية وللموساد وجود في لبنان لكن أذرعه هناك لا تملك من الوسائل ما تصل به للمعلومات الحساسة والنقاطة المحمية بقوة.......
وعادة ما تتنصل الدول من أي دور لها في عملية استخباراتية وتخفيها حفاظا على طواقمها العاملة والمنخرطة في الموضوع ومن أجل أن تستمر في القدرة على القيام بالمزيد والعمل الإستخباراتي حين تتعرف الناس عليه لا يعود عملا استخباراتيا لأنه في طبيعته أمر سري للغاية ولا تعرف الناس عنه شيئا إلا من خلال تحليل نتائجه ومعرفة من المستفيد منه أو يوم ترفع عنه السرية وعادة لا ترفع عنه السرية إلا حين لا يعود بالإمكان أن يحدث أثرا ....
قد يحصل الموساد على المعلومات من خلال علاقاته بالمخابرات الغربية لكن هذا وحده لا يكفي للقيام بأية عملية ولا بد لإسرائيل من الحصول على العون الفني والوسائل اللوجستية لإنجاز المهمة وهذا الأمر يخرج عن دائرة اختصاص الإستخبارات ويدخل في دائرة استراتيجيات الدول بمعنى أن تكون الموافقة عليه بقرار سياسي من أعلى مستوى....
الذي حصل في بيروت قرار أمريكي خطير جدا ومرد خطورته تكمن في دلالاته السياسية وليس في الفعل ذاته من حيث صعوبته وقابلية حدوثه ودلالاته العسكرية.....فالضاحية الجنوبية لبيروت حيز جغرافي ضيق تتم مراقبته منذ عقود و على مدار الساعة بالأقمار الصناعية الأمريكية ولا توجد فيه نقطة غير معروفة ولا حفرة ولا بناء إلا تحت المراقبة الدائمة لأمريكا والغرب ولا توفر هذه المنطقة مأمنا على الإطلاق لأي كان أحرى لشخص بقدر حسن نصر الله.
إن اغتيال حسن نصر الله أحدث صدمة كبيرة ووقعا نفسيا شديدا على حزب الله وعلى المقاومة بصفة عامة إلا أنه ليس فتحا إسرائيليا كبيرا وليس إنجازا عسكريا يُتفاخر به لأنه متاح في كل لحظة والذي كان يمنع أمريكا منه ليس أنه صعب عليها تحديد مكان إقامة أو مكتب حسن في الضاحية بل لأنها تخشى تبعات الفعل السياسية على مصالحها في المنطقة.
فما الذي أقنع أمريكا أن تغتال حسن نصر الله اليوم تحديدا ؟ وماهي الآثار الفورية والمتوسطة والبعيدة المدى لهذا الفعل ؟
لا شك أن هناك صراعا قويا اليوم داخل إيران بين حوزة "قم" وسلطة طهران ولا شك أن الرئيس الحالى ليس كسابقه في العلاقة مع المرشد ولا شك أيضا أن انتخاب رئيس غير "حوزوي" التوجه يعني أن غالبية الإيرانيين بدأت تنأى عن فكر وفلسفة "ولاية الفقيه" وأن هذا التحول قد يتجسد غدا في أغلبية برلمانية تكون سندا للحكم الجديد وضغطا آخر على المرجع.
لكن الحوزة الشيعية تملك "الحرس الثوري" و"فيلق القدس" وهذه جيوش قوية جدا ومدربة جدا وعقائدية إلى أبعد الحدود وتؤمن بما تؤمن به الحوزة وهي في إيران تحرس "ولاية الفقيه" وتحميها كما الجيش في تركيا يحرس العلمانية "الكمالية" ويحميها....والسلطة الأرضية في طهران تدرك أن تجاوز الحرس الثوري يعني نهاية الدولة وليس بمقدورها أن لا تتعاون معه....
قد تكون أمريكا قررت أن تسارع في استئصال أذرع "ولاية الفقيه" فبدأت بأولها وأقواها، حزب الله اللبناني، واختارت هذا الوقت بالذات حيث تضعف قبضة "ولاية الفقيه"داخل إيران من خلال التعايش مع رئيس غير مطواع يفرض عليها قدرا كبيرا من الكياسة وعدم التعرض للعاصفة.
ومن غير المستبعد أن يكون هذا الصراع الداخلي الإيراني الذي أنتج انتخاب الرئيس الجديد قد مكن المخابرات الأمريكية من التغلغل بسرعة داخل المنظومة الأمنية والسياسية الإيرانية وربما قد يكون ساعد في التخلص من رئيس إيران المتشدد ومن ضيف إيران المغدور.
سيتسبب اغتيال حسن نصر الله في ارتباك شديد داخل الحزب وسيتسبب بصدمة قوية تطال حاضنته المجتمعية والسياسية ولا يستبعد أن يكون ما تعرض له من اختراق سببا في تدافع المسؤوليات داخل بنيته التنظيمية وقد يتسبب في اقتتال واحتراب بيني كما أنه لا يستبعد أن توعز أمريكا وفرنسا ودول الخليج للأحزاب اللبنانية التابعة بالإستعداد لمواجهة مع الحزب المكلوم وربما تشهد لبنان حربا أهلية أخرى تكون الغلبة السريعة فيها لمحور الغرب ومشيخات الخليج بعد تدمير حزب الله وتصفية الوجود الفلسطيني في الجنوب.
من النتائج التي قد تكون أمريكا تسعى لها من وراء اغتيال حسن نصر الله أن يقع للحزب نفس المصير الذي وقع لحركة فتح بعد اغتيال أمريكا لياسر عرفات فيتحول- كما تحولت حركة فتح - من قوة ضاربة تقض مضاجع الصهائنة في الليل والنهار إلى ذراع تتتبع بها أمريكا ومن وراءها خطى ومخابئ المقاومين لمشروعها في لبنان والمنطقة.....
و قد يكون القصد من تصفية حسن نصر الله أن يدفع حزب الله المنهك ليعود فصيلا شيعيا مدجنا كحركة "أمل" له مقاعد في البرلمان وينافس إخوته في الطائفة على رئاسة مجلس النواب، حصة المكون الشيعي من القسمة اللبنانية ليعود لبنان كيانا بيد أمريكا ومن ولاها من سلاطين المنطقة وشيوخها....
في كل الأحوال فالذي قتل عرفات هو الذي قتل حسن تخطيطا وتدبيرا وتعبئة وعبأ الوسائل وجيش القدرات وليس إسرائيل بل أمريكا وفرنسا والغرب ودور إسرائيل لم يكن غير أن تضغط على كبسة الزر عندما تصلها الإشارة....
لكنهم مهما اغتالوا ومهما قتلوا ومهما أعاثوا في الأرض من فساد فإنهم كل يوم يسقون حرث الكراهية لهم ولمشروعهم ولثقافتهم و عدوانيتهم وظلمهم ومخطئ من يظن أن الفكرة تموت بالإغتيال ....
رحم الله حسن نصر الله و كل المقاومين وغفر لهم وتجاوز عنهم.
الدكتور محمد ولد الراظي