أدركت إسرائيل بأن مشكلتها الأولى، ليست مع الأحياء، من أمة الإسلام، الذين يقال بأن عددهم يناهز الملياري نسمة، وإنما مع القتلى الذين تحسبهم هي أمواتا، ويحسبهم بعضنا أمواتا، وهم أحياء عند ربهم يرزقون.
الجنازة البديعة التي أقيمت للمبدع ماهر الجازي، نهار الثلاثاء، من خلال الهبّة الشعبية والتوافق الحكومي، دليل على أن ما فعله فتى الأردن، كان تنفيذا وترجمة لأمنيات أهل الأردن، برغم سنوات التطبيع التي عاشوها ومازالوا.
ولو شهد ماهر ما حدث في يوم تشييعه أو تكريمه إلى مثواه غير الأخير، لتمنى العودة للحياة، وإعادة المشهد البطولي مرة أخرى بقتل مزيد من الصهاينة، والارتقاء مع المرتقين.
لقد نجحت المقاومة الفلسطينية، بطريقتها الخاصة، في تحريك الأمة التي حقنوها بداء “الزهايمر”، وفي تذكيرها بأشد الناس عداوة للذين آمنوا، وفي كشف حقيقة هذا العدو الذي صار يتخبط، لا يدري مصيرا له، برغم بعض الافتخار بما يسميه انتصارات، كما حدث مساء الثلاثاء، خلال حادث انفجارات أجهزة الاتصال التي خلّفت المئات من الإصابات في بيروت بين مدنيين وجنود “حزب الله”، والذي احتفل به مسؤولون من “الشاباك” ووصفوه بالاختراق الاستخباراتي المدهش.
الجديد الذي فرضته المقاومة منذ تفجيرها ثورة السابع من أكتوبر، هو طول الحرب التي تشارف السنة من عمرها، وجعلها دواليك، يوم للعدو وآخر للمقاومة، كما تمكّنت من طرح كلمة “وجودية” على العدوّ بقوة ضمن قاموس المواجهة، وما كان الصهاينة يستعملونها أبدا في حروبهم الكلاسيكية مع العرب، والتي كانت تبدأ في الوقت الذي يحدّدونه وفي المكان الذي يختارونه، وتنتهي بسرعة لصالحهم.
أدرك الصهاينة بأن اغتيالهم للشيخ ياسين وللدكتور عبد العزيز الرنتيسي، أنجب مقاومة، فعلت بهم الأفاعيل وحطّمت “أسطورة” جيشهم الذي لا يقهر، في السابع من أكتوبر الخالد، وتدرك الآن بأن اغتيالها لإسماعيل هنية سيقرّبها من خسارة الحرب وربما خسارة وجودها، لأجل ذلك أخفت جثة الشهيد ماهر الجازي لمدة أسبوع، غير قادرة حتى على تسليمها لأهله، على قناعة بأن ما يفعله الشهيد في عدوه، أكبر مما يفعله وهو على قيد الحياة.
لم يكن العدد أبدا جزءا من الانتصار، فقد كان المسلمون قلّة في غزوة “بدر”، ونجحوا في إعلاء راية الإسلام، وأعجبتهم كثرتهم في حنين، فخسروا بداية المعركة، لولا صيحة العباس بن عبد المطلب، وما نفعتهم كثرتهم بمليار نسمة ثم قرابة المليارين، وها هم القلة من الشهداء يصنعون بكرمهم الفدائي البطولي ما لم يصنعه هذا الغثاء.
ونستذكر حديثا للرسول، صلى الله عليه وسلم، عندما قال: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، فقال قائل: “ومن قلة نحن يومئذ”؟ فقال: “بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن”، فقال قائل: “يا رسول الله: وما الوهن؟” فردّ: “حب الدنيا وكراهية الموت”.