المفهوم المتعارف للسياسة أنها فن الممكن، و السعي العملي لتجسيد الأهداف المرغوبة في واقع مليء بالتحديات والاكراهات والممكنات.
وتعرف السياسة أيضا بأنها: «كيفية توزيع القوة والنفوذ ضمن مجتمع ما أو نظام معين».
كذلك تعرف السياسة بأنها: «العلاقة بين الحكام والمحكومين أو الدولة وكل ما يتعلق بشؤونها أو السلطة الكبرى في المجتمعات الإنسانية وكل ما يتعلق بظاهرة السلطة.
وابتداء يجب التسليم بأن التصورات النظرية الطوباوية والرؤية الحدية لدوائر التدخل وبناء المواقف تنافي" الفعل السياسي"
فالسياسة هي فن ابتكار البدائل والخيارات المتعددة، وهذه خلاصة عقلية واضحة، ولها علاقة بمنهجية السير وفق مقتضيات الأولويات والقدرات والامكانيات.
كما تجد تأصيلها في مفاهيم قاعدة السياسة الشرعية: (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) :
التي تسعى للتأثير في الواقع المتقلب المليء بصراع الإرادات والقِوى بتحصيل أهم المصلحتين بتفويت أدناهما عند التعارض ودرء المفاسد باحتمال أخفهما عند التلازم.
هذه “البراغماتية” التي تعكس الروح العملية تكون مقبولة جدا في إطار الفهم السليم لها ،دون أن توظَّف لتفويت التفكير في المؤسِّسات التي يصبح الكسب بدونها كسبا للسراب "...يحسبه الظمآن ماءا"
..إذ هناك فرقا بين الاحتراف السياسي وبناء عقلية "رجل السياسة" وبين فقدان الوجهة وغياب الناظم الذي يضمن السير في اتجاه تحقيق الهدف السياسي مهما بدا الطريق شائكا وصعبا وطويلا ومهما كانت الدروب في مسالكه مغرية بالتزحلق والذهاب مع كل المنعرجات وفي كل الاتجاهات..
ان استحضار الوجهة إذن لازم أولا قبل استخدام أدوات السير
حتى لا يتورط السياسيون أصحاب المبادئ والمشاريع المشاريع المجتمعية في تعبيد طريق لا يصلهم بالغايات والأهداف التي خاضوا معترك التدافع السياسي وقدموا التضحيات ابتغاء نيلها.
"يقول المفكر مالك بن النبي:
"العلم دون ضمير ما هو إلا خراب للروح والسياسة دون أخلاق ما هي إلا خراب للأمة."نحن بحاجة الي اخلاق السياسة وسياسة الأخلاق"
صحيح أن العمل السياسي ليس خطابا انشائيا ولا تمنيات حالمة منبتة عن واقعها
ولكنه أيضا ليس عملا بلا روح، خصوصا إذا كان أصحابه ملزمون بالتمسك بمبدأ أخلاقي هو مبرر وجودهم.
فالعمل السياسي الوطني ينبغي أن يشمل بعدين: بعد احترافي يرمي للنجاعة والفاعلية والتعامل مع الواقع بكل اكراهاته وتفاعلاته
إ ويتاتي ذالك في جملة من القدرات والمهارات والملكات والاعتبارات التي تتعامل مع الواقع تحقيقا للممكن والمتاح من الحق والخير في ظل إمكانات الذات أو ممكنات الواقع
،
ولكن ذلك يتم بالتوازي مع الحفاظ على الثوابت والمنطلقات.
ولنقل إنها جدلية العلاقة بين الوسيلة والهدف، مهما كانت مساحة الوسيلة كبيرة ومغرية، فمبدأ الغاية تبرر الوسيلة انتهازية رخيصة،و تؤدي إلى ردات فعل خاطئة ،بل يجب أن ننطلق من أطر أخلاقية تقوم على مبدأ التوافق بين الغايات و الوسائل يقول عبد الناصر:( الوسائل يجب أن تتكافأ شرفا مع غاياتها"
حين اتضح من خلال مواقف الكثير من الحركات السياسية الوطنية لتي ناضلت وقدمت تضحيات في واقع سياسي واعتبارات ميزان القوى
فمجرد تحالفها مع الأنظمة الحاكمة والمتغلبة واجنداتها اوحسب نظرية بن خلدون :
("أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه و نحلته و سائر أحواله و عوائده"
فيفقد كل يوم أرضا جديدة في مقابل انظمة في واقع متغير اقليميا دوليا ومتغطرس داخليا.
ولم تستطع الاستمرار في رؤية القوة الأخلاقية التي يمنحها إياها برنامجها النضالي والاصلاحي و فتتقدم خطوات متسارعة ،في سبيل المكاسب المغرية ،بمقاييس ميزان القوى الظاهر ومقاييس الكسب الإعلامي والسياسي الآني
لكنها بالمقابل خسرت نفسها في النهاية، وتحولت إلى كيانات بعيدة كل البعد عن الاتصاف بصفة حركات تحريرية وطنية،ذات مشاريع مجتمعية الي هجين مختلط مذبذبين لا الي هؤلاء ولا الي هؤلاء.
ومع الزمن تحولت "المكاسب السياسية المرحلية" إلى ضرائب استحقاقات طريق آخر برجاله وسياساته، واضطرت الحركات إلى الانسجام مع معطيات وقواعد لعبة جديدة أقصتها شعبيا وقوميا وحرمتها الميزة الأخلاقية والقناعات الفكرية .
وبنفس القياس واتعاظا بتلك التجربة فإن الميزة التفضيلية والقيمة المُحتكرة للسياسيين هي في شق طريق يُمايز الفهم التقليدي للممارسة السياسية القائمة على معيار المغالبة وحدها،
الأمر الذي يجعل بعضهم في عجلة من أمرهم ليسلكوا هذا الطريق ؟ ! .. ألم تعط تجارب المشاركة السياسية التي لم تبن على تهيئة كافية ومراجعة ذاتية بأن الوصول للحكم أو مقاربة ذلك لا يعنيان وحدهما لا كسبا سياسيا ولا تمكينا عمليا.
لا شك أن البديل عن كل ذلك اتباع منهجيات سياسية تتعاطى مع كل حالة، وفقا لهذه الثنائية.
وتلك المنهجيات تتطلب الرؤى، ولا شك أن أخطاء كثير من هذه الممارسات هي نتاج عجز فكري وضيق افق سياسي.. .
والأكيد في كل الحالات أن من يستعجل النجاعة فيتحالف مع "الدولة العميقة" سيقدم نفسه قربانا لخصمه الأصيل.اما ليبرالية متوحشة اونظام رأسمالي اقتصادي غير مستقر.
في هذه المنطقة يتداخل الفكري بالسياسي تداخلا مهما، وهنا يصبح الوعي السياسي ضروريا لتقييم الواقع تقييما سليما، وهو تقييم ينبغي أن يتم بمنظار "الأهداف الكبرى" ،التي يتم السعي لها، بمعنى حضور المرتكزات النظرية، التي يتم على وعي بهاو وضع الأقدام على السكة الموصلة الي الأهداف والغايات.
وهذا الأمر لا يعني أن تتغلب أشواق الهوية على البرنامج السياسي.
بل ذلك أمر من صميم ضعف "الخبرة السياسية" ما لم تلجأ إليه معارك الصراع على روح الأمة، ولكنه يعني خوض السياسة وفق رؤية حاكمة ومنهجية تتعاطى مع مفردات الواقع السياسي والخريطة السياسية.المتغيرة
تصور وتقديم البرنامج السياسي كدليل طريق لا يصادر الفاعلية، ولكنه يضمن السير وفق هداية المنطلقات، ومقتضيات الخبرة والتجربة، وهنا تكسب السياسة "حسنتي" الأخلاق والقوة وتحقيق المصالح
يقول احد السياسيين :
" السياسة ليست لعبة النوايا الحسنة أو المبادئ السامية فحسب؛ إذ ليس بالضرورة أن ينتصر صاحب "المبدأ" إنها أشبه بلعبة الشطرنج يتدخّل فيها عامل الذكاء، والاستعداد، والإلمام الجيد بقواعد اللعبة.
-صحيفة الصدى الموريتانية الورقية/العدد347بتاريخ الاثنين 06/05/2024