مضت العشر الأولى من رمضان، وتلتها العشر الثانية، كأنهما يومان تعاقبا سريعا. مضت تحمل اجتهاد المجتهدين، وتفريط المفرّطين، وغفلة العاصين المسرفين الذين لم يعرفوا لرمضان قدرا ولا قيمة، فهو عندهم كأيّ شهر آخر، يمتنعون عن الشّهوات والمحرّمات في نهاره مضطرّين، فإذا أقبل الليل أمسى شعارهم: “بعد العشاء افعل ما تشاء”، وكان حالهم: “نهار رمضان ولّى هاتها يا ساقي”!
مضت عشرون يوما من رمضان.. فليتنا ندري كم تقبل الله منّا في هذه الأيام التي رحلت من شهر الإحسان؟ كم ركعة من التراويح صلينا وكم تقبل الله منها؟ كم سجدة لله في وقت السحر سجدنا، وكم قبل الله منها؟ كم دعوة إلى الله رفعنا وكم حاجة طلبنا وكم همًّا شكونا، وكم منها قد أذن الله بإجابته وكشفه؟ كم صدقة بذلنا وكم تقبل الله منها؟ يا ترى، هل أذن الله بعتق رقابنا من النّار، وفي أيّ ليلة أعتقنا؟ أم إنّ رقابنا ما زالت مرهونة؟
العبد المؤمن الذي يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه، مهما بلغ في اجتهاده، فإنّه في آخر العشر الثانية يحسّ بالتقصير في حقّ رمضان، ويخشى ألا يتقبل الله عمله: روى الترمذي في سننه من حديث أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنهما- أنّها قالت: سألت رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: 60]، أهم الذين يشربون الخمر، ويسرقون؟ قال: “لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ”.
العبد المؤمن مهما غيّر من حاله ومهما اجتهد في أيام الشّهر الفضيل، فإنّه يحسّ بالتقصير في حقّ رمضان، وفي حقّ مولاه الواحد الديان، لأنّه لا يدري لعلّ رمضان هذا العام هو آخر رمضان له في هذه الدّنيا، وهو فرصته الأخيرة قبل أن يغادر دار العمل إلى دار الجزاء.
الحسرة على انقضاء العشر الأولى والثانية من رمضان ضرورية لحياة القلب ومطلوبة لإيقاد العزم وشحذ الهمّة لتعويض ما فات، ومطلوبة قبل ذلك للنّدم على الغفلة والتقصير في أيامٍ وليالٍ يتمنّى الموتى ساعة منها.. ولعلّ من رحمة الله وفضله على عباده المؤمنين، أنّه جعل الليالي العشر الأواخر من رمضان هي أفضل ليالي الدّنيا، وجعل بينها ليلة القدر، ليعوّض المفرّطون والمتحسّرون ما فاتهم.
العشر الأواخر من رمضان التي تبدأ -هذا العام- عند أذان المغرب يوم السبت، هي أفضل ليالي الدّنيا والعمر.. من طال عمره حتى أدركها، فقد مُنح فرصة العمر ليتدارك تقصيره، ويزداد قربا من مولاه ويبلغ رضاه، وينال مبتغاه ويبلغ مقصده ويحقق مناه، في ليال يجد فيها العبد رقةً في قلبه وإخباتا في روحه وخفوتا في نفسه، ورغبة ملحة داخلَه في أن يتذلّل لخالقه ومولاه ويبثّ إليه همومه وأحزانه ومناه.. ليالٍ يكون فيها العبد أقرب ما يكون إلى رحمة ربّه وفضله وثوابه وعطائه. يحتاج العبد المؤمن فقط أن يستشعر بأنّها قد تكون آخر عشر يعيشها في هذه الدّنيا، وهي فرصته الأخيرة، ليعوّض تقصيره في سنوات عمره التي خلت. يقول الإمام ابن الجوزيّ -رحمه الله-: “كم في المقابر مَنْ تمنَّى لقاء عشْرِك فما لقِيه، قصدَه سهمُ المنون فما وُقيه! كم مِنْ مؤمِّل أيام عشرك هذه، غُصَّ بشراب أمله في كأس التذاذه! كم مِنْ محدث نفسه بالتوبة فيه مِنْ معصيتِه، سبق إلى حتفه قسرًا بناصيته”.
يحتاج العبد المؤمن لأن يخفّف ثقل الدّنيا على قلبه، ويفرّغ قلبه من المشاغل التي يمكن تأجيلها.. في البخاريّ عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. وكان -عليه الصلاة والسّلام- يعتكف العشر الأواخر من رمضان في المسجد لا يخرج إلا لضرورة أو حاجة ملحّة، يجعل نفسه وقفا على طاعة الله، ولا ينام إلا قليلا.
وعلى سنّته سار الصّالحون؛ كانوا في العشر الأواخر كما قال الله: ((قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون))، ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا))، يطيلون القيام بعد العشاء وفي ثلث الليل الأخير ويتذلّلون غاية الذلّ لمولاهم ويبكون بين يديه ويسألونه العفو والمغفرة وعتق الرقاب، ويرجون رضاه وجنّته، ويطلبون حاجاتهم ويدعون لأهليهم وذرياتهم وإخوانهم، وهم موقنون بالإجابة.
كانوا يهيّئون لهذه العشر قلوبهم وأرواحهم ودعواتهم، وحتّى أجسادهم، حتى كان منهم من يغتسل كل ليلة في العشر الأواخر ليطرد عنه الكسل والنّوم ويكون أنشطَ له في العبادة، وكان منهم من يتطيب ويلبس أحسن ثيابه، ليقف بين يدي مولاه في أحسن هيئة وأبهى صورة.
هكذا كان الصّالحون، فماذا نحن فاعلون؟ هل سنفرّغ قلوبنا من هموم الدّنيا في هذه العشر؟ هل سنخرج منها همّ حلويات العيد؟ همّ كسوة الأبناء؟ ونملؤها بهمّ الخشوع والخضوع لله؟ إنّ أنفع حال نتحلّى بها في ليالي العشر الأواخر، هي حال الذلّ والانكسار بمثلها لله، وكلّما كان العبد أكثر تذللا وانكسارا لمولاه في هذه الليالي، كان أقرب إلى عفوه ورحمته وفضله. فهل سنهيّئ قلوبنا لتخشع وتخضع وعيوننا لتنكسر وتدمع؟
هل سنحمل همّ إدراك ليلة القدر، ونجعل إدراك هذه الليلة المشهودة هدفا لا يغيب عن أذهاننا إلى آخر ليلة من رمضان؟ هل سنحصي همومنا وحاجاتنا وأمنياتنا لنبثّها بين يدي الله في ليال تجاب فيها الدّعوات وتحقّق الأمنيات والرغبات؟
أخي المؤمن.. كم حاجة من حوائج الدّنيا والآخرة طال انتظارك لها؟ كم أمنية مضت عليك سنوات وعقود وأنت تنتظر تحقّقها؟ العشر الأواخر فرصتك أخي المؤمن.. فقط ابدأ بحوائج الآخرة قبل حوائج الدّنيا: اجعل رضا الله عنك أهمّ وأغلى أمنياتك.. اجعل هداية زوجتك وأبنائك واستقامتهم على طاعة الله واجتماعك بهم في الجنّة أمنيتك الثانية.. اجعل الثّبات على طاعة الله والخاتمة الحسنة أمنيتك الثالثة.. اجعل حفظ القرآن وحسن تلاوته وتدبّره بين أمنياتك.. ثمّ التفت إلى حوائجك في الدّنيا، من صحّة وعافية وشفاء ونجاح أبناء ورزق كاف وبركة في المال والأهل والولد.. لا تنس أخي المؤمن إخوانك المسلمين من حولك: ادع لجارك الذي يؤذيك بأن يهديه الله. ادع لقريبك الذي ظلمك بأن يهديه الله. ادعُ للشّباب الذين تخطّفتهم الخمور والمخدّرات والمواقع الإباحية، ادع الله أن يهديهم ويأخذ بنواصيهم إليه.. ولا تنس الدّعاء لإخوانك المسلمين في غزّة بأن يفرّج الله كربهم ويطعمهم ويسقيهم ويؤويهم وينصرهم على عدّوهم ويمكّن لهم في أرض الشام المباركة.. باختصار اجعلها ليالي رحمة عامّة ترجوها لكلّ النّاس، وأبشر برحمة أرحم الرّاحمين، فالرّاحمون يرحمهم الرّحمن، وكلّ دعوة تدعو بها لإخوانك، يدعو لك الملك بمثلها