كتب سيد محمد xولدwفي الذكرى المئوية للعلامة المجدد الشيخ سيديَ بابَ الشيخ بابَ بعيون فرنسية

7 يناير, 2024 - 23:47

كتب الرائد افرير جان في مذكراته: (موريتانيا 1903 – 1911

قصص مغامرات وجولات وحروب في بلاد البيضان): ترجمة الدكتور محمدن ولد حمينه- الصفحة 216:

"وفي المساء ومن أجل التعرف على وسط "أولاد إبييري" اصطحبني" كبولاني" إلى جلسة أحاديث أمام الخيام مع الشيخ سيديا(باب) فوجدناه في ثيابه البيضاء واضعا عمامته وقد جلس جلسة الخياط فوق "إلويش"  أبيض وحوله جمع من التلاميذ حديثي السن عموما ينظرون إليه بإعجاب ويتلقفون ما يصدر عنه من كلمات، كان يتكلم بأسلوب هادئ رصين تتخلله سكتات منتظمة تصحبها إشارات مستمرة خفيفة بيده في استدارة يبدو فيها هذا الشيخ ذو البشرة النضرة (كالراهب اليسوعي) كما لو كان معجبا بيده البيضاء ذات الأظافر المقصوصة حين يرفعها في حين يمسك بيده الأخرى لحيته من تحت اللثام وهو يوزع النظرات بعينيه الواسعتين بحيث ترافق حركة بياض وسواد حدقته وصوته وحركة يده.
إن "الشيخ سيديا" يتكلم في نفس الوقت بعينيه وفمه المخفي تحت اللثام الذي برز منه أنفه الدقيق كما يعبر بإشاراته المصاحبة لحركة عينيه كل ذلك في انتظام وانسجام.

وكتب أبرز "مؤرخي" الإدارة الفرنسية الاستعمارية" بول مارتي (Paul Marty) في كتابه: "دراسات حول الإسلام في موريتانيا (الشيخ سيديا-الفاضلية- إدوعلي)". ترجمة الدكتور البكاي ولد عبد المالك- الصفحة 31:

الشيخ سيديا باب :

1- شخصيته
ولد الشيخ سيديَ (بابَ) حوالي سنة 1862م. توفي والده ولما يصل إلى الثامنة من عمره. وكان قد بدأ تعلم القرآن على والده، وأكمل حفظه على أحد الشرفاء المغاربة (من آل البيت) هو مولاي امحمد الذي استقر في قبيلة أولاد ابييري، إلا أن هذا الشريف توفي في أحد أسفاره إلى منطقة آدرار لدى قبيلة أولاد يحيى بن عثمان إثر تعرضه لرصاصة طائشة أطلقها أحد عبيد الأمير سيد أحمد بن أحمد عيده.

وقد شرع سيديا بابا بعد حفظ القرآن في دراسة العلوم الإسلامية بصحبة كبار تلاميذ أبيه الذين لا يزال أحدهم فقط الآن (1913) على قيد الحياة وهو محمد بن داداه قاضي أولاد ابييري.
ويروى الناس أنه عندما وصل ذلك الحد من العلم "كان يضاهي بل ويفوق أساتذته" فكان عليه أن يواصل تعليمه بنفسه.
وفي الواقع فإن الشيخ سيديا(بابَ)، الذي هو مثقف حقيقي، لم يتوقف أبدا عن العمل. فمنذ أن حصل على جملة المعارف المتوسطة التي استطاع أساتذته تزويده بها، بدأ في استكمال معارفه عن طريق شراء الكتب المطبوعة والمخطوطة ونسخه للبعض منها بنفسه، وقراءة الصحف والمجلات العربية، والحوارات مع العلماء الأجانب، والمشاهير والشيوخ لا في مجتمع البيظان فحسب بل وفي مجتمع الزنوج أيضا. لكنه استكمل تكوينه على وجه الخصوص عن طريق الكثير من التأمل الشخصي. وقد أصبح في الوقت الراهن (بداية القرن العشرين) مفكرا في غاية الذكاء والعمق، وشدة الانفتاح وغزارة العلم، وهو بالتأكيد أحد أبرز شيوخ قبائل الزوايا.

ألف العديد من الكتب المتعلقة بالعلوم الإسلامية منها على وجه الخصوص كتاب: "مقال في العقيدة" وهو كتاب في التوحيد، و"نظم لأسماء الله الحسنى"، وكتيب صغير في الفقه في هيئة فتاوى يسمى "الأجوبة الفقهية"، وكتاب "المقلد" وهو كتاب يقع في أربعين صفحة وهو عبارة عن دراسة مقارنة للواجبات الشرعية بين مختلف المذاهب السنية، ودراسة في قواعد اللغة في طريقة النطق بحرفي (الضاد) و(الظاء) والعلاقة بينهما، بعد أن أخذ مخرج الضاد الصحيح عن العلامة محمد فال ولد باب ولد أحمد بيبَ (ابّاه) بعد عوته من المشرق وأدائه فريضة الحج، وقد نشرت هذه الدراسة في "مجلة العالم الإسلامي" عدد يونيو 1913.
وللشيخ سيديا (باب) ثلاث رسائل حول الجهاد والهجرة من البلاد التي يحتلها النصارى، ورسالة في الأنس، وكانت هذه الرسائل يقول الشيخ: "عرضة للتشكيك في بادئ الأمر، وجلبت لي الكثير من النقد والتجريح".

ومن المجازفة أن نحاول القيام حتى ببحث نفسي حول الزعامة الروحية للشيخ سيديا(باب). لكن مما لا شك فيه أنه لن يكون من نافل القول الإشارة إلى سمتين أساسيتين في طبعه، وإلى بعض الاتجاهات في سياسته الدينية: فقد كان الشيخ سيديا إنسانيا ومصلحا أيضا.

ففي الجانب الأول يمكن مقارنته عن طيب خاطر بأحد الأساقفة الأذكياء والمنفتحين في محكمة ليون العاشر (Leon x)، فهو مفكر فضولي يهتم بكل شيء لا بالعلوم الإسلامية وحدها التي أصبح معلما لها، بل بشتى مظاهر الحضارة الحديثة. فكان الفضول يحمله إلى الاهتمام البالغ بالتنظيم الداخلي لفرنسا، وبطريقة عمل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبالحياة الاجتماعية والاقتصادية وبخاصة الدينية للفرنسيين وبعلاقاتهم بالأمم الأخرى التي كان يعرفها تمام المعرفة. كما حمله الفضول أيضا إلى الاهتمام بنشاط فرنسا في شمال إفريقيا، وبما يحدث في المغرب وليبيا ومصر وفي الشرق من أحداث وبمنطقة إفريقيا الغربية، وبإدارة الشعوب الزنجية، وكانت هذه الموضوعات محببة إلى قلبه، وكان لا يفوت أي فرصة لتناولها في نقاشاته.

ولم يكن اهتمامه بالماضي أقل حدة. فقد كانت له اتصالات ببعض الشخصيات البيظانية أو الزنجية المهتمة بأخبار "السلف" وأعمالهم. فاهتم بالأصول التاريخية وبالبناء الاجتماعي المجتمع البيظان و أنجز حول هذا الموضوع بعض اللمحات الأصيلة والمعلومات المتنوعة.

وعلى الرغم من أن تلك الأفكار كلها كانت فضفاضة شيئا ما مركومة، وغير منظمة، وتفتقر إلى الدقة والوضوح في ذهنه في الكثير من المسائل، إلا أن أفكاره كانت إما صحيحة أو مهمة.

ونحن نعرف من جهة أخرى أنه يعمل ببطء في الواقع منذ عدة سنوات على تأليف كتاب حول تاريخ الجماعات في موريتانيا على الرغم من الضغط الذي مورس عليه من كل جانب. وربما كان الشيخ سيديا الوحيد في مجتمع البيظان الذي أقر بأن قبائل الزوايا كلها، والتي تفاخر بأنها قبائل عربية ذات أصول خالصة تعود إلى آل البيت أو سواهم، لم تكن في حقيقة الأمر سوى قبائل أصلية اضطرت إلى الانحناء، الذي لم يخل من مقاومة، أمام الهجمة الحسانية وبحثت من خلال التخلي الطوعي عن سلاحها والتفرغ للعلم، عن السلم الذي لم تعد قادرة على الحفاظ عليه بحمل السلاح.

إن الشيخ سيديا باب في الأخير رجل محبب إلى النفس بشوش، بعيد كل البعد عن التعصب - وهو ما يشعر به غيره ولا يخفيه هو نفسه - يؤمن بأن الخير يوجد في كل مكان، وأنه إذا كان الإسلام يحتكر الحقيقة الدينية، فإن الديانات الأخرى السماوية بطبيعة الحال : وهى المسيحية واليهودية شديدة القرب منه، وفي مقدورها أن ترشد الناس إلى الفضائل العظيمة والورع الشديد. وفي الأخير وبما أن الحضارة المسيحية تجاوزت في الكثير من المسائل الحضارة الإسلامية، فإن من مصلحة هذه الأخيرة أن تتعلم منها.

لقد ولد السمو الخلقي لطبعه، والمفاسد التي رآها تحدث من حوله ميولا إلى نوع من الإصلاح الديني. لكن يجب علينا أن نوضح هذه المسألة إذ لا يتعلق الأمر هنا بالبدعة (coupable innovation) في العقيدة، أو في الثقافة التي يرفضها العلماء المسلمون بشدة. فالشيخ لا يتعرض للثوابت في مجال التوحيد. فمأخذه وطموحاته لا تتجاوز إصلاح المنهج فهو ينتقد بعبارات قاسية أساليب البحث التي تعانى من الغلو والتي يرى أن جيرانه من المشايخ يستخدمونها بكثرة في بلاد السودان.

وهو يقر من حيث المبدأ بأن الفقيه يجب أن يعيش من صنعته لا أن يستغلها لمصلحته، بل كان يقف بازدراء في وجه الرعاة المدعوين إلى رعي قطيعهم والسهر عليه لا إلى قص وبره (non alligabis os bovi triturantti). فهو يرفض تلك الطرق القائمة على الاتجار بالدين، والتي تكمن في إعلان بعض المشايخ عن أنهم "أولياء" و "أقطاب من خلال زمرة من المنتفعين، وبيع بركتهم بالتقسيط للزنوج الخرافيين .

فما الذي يتبقى بعد تلك الجولات التي كان يقوم بها أولئك المشايخ لجمع الهبات والاتجار بالنفوذ، ومن تلك الجولات الدينية التي يتم فيها استغلال الهوس الصوفي الذي يرين على قرية معينة ليسلبها كل ما ادخرته من قوت لعام كامل وسائر خيراتها التي جمعتها بشق الأنفس؟
ويخلص إلى القول: إن الأفارقة الزنوج يزعمون بأنهم مسلمون، ويعتقدون أنهم كذلك، إلا أن أغلبهم ليست لديه أدنى فكرة عن التعاليم الدينية، ولا يراعى أخلاق الإسلام ولا واجباته ولا شريعته، ونحن البيظان - وهو يشير بذلك دون شك إلى الشيخ سعد بوه - هم المسؤولون عن ذلك.

ومن هنا نرى أن هذه النزعات التجديدية، التي لا تتعلق إلا بطريقة نشر الإسلام، لا تهدف إلى شيء أكثر من جعل نشر الإسلام بين الزنوج الأفارقة أكثر فاعلية، وتحويل إيمانهم الخرافي بالإسلام إلى إيمان قوي وممارسة قويمة

وقد أحس الشيخ بكل ما تنطوى عليه الحالة الدينية (للمسلمين) من الزنوج الأفارقة من زيف، وكان يدرك بأن عاصفة سياسية أو تكنولوجية قوية، أو مجرد تطور اقتصادي قد يجعلهم ينتكسون إلى ديانتهم الوثنية القديمة، ولم يكن يجهل ذلك بعد أن حصل بالفعل مرة واحدة على الأقل للجماعات السنغالية.

وصفوة القول هي أن هذه الإصلاحات قد ظلت على مستوى الميول لدى الشيخ، وكانت موضوع حواراته ودعوته، لكنها لم تعرف أبدا طريقها إلى التطبيق، ولم يجد الشيخ سيديا (باب)وما كان له أن يجد في مجتمع البيظان المحتاج اللحوج، تلك الكتيبة من الدعاة المتحمسين والمترفعين للاضطلاع بالمهمة الجسيمة التي كان ينوى القيام بها.
ولئن كان الشيخ سيديا يحرص شخصيا على الابتعاد عن تلك التصرفات المشيئة التي يعيبها، فإنه قد سمح لأهله وأتباعه بممارستها. ويجب الإقرار بأن أهم تلاميذه من الزنوج، وهو أحمد بمبا - الذي أصبح الزعيم الروحي للطريقة المريدية السنغالية لم يعر كبير اهتمام لهذا الجزء من الميول الإصلاحية الضعيفة لأستاذه القديم.

ولم يكن في مقدور الشيخ سيديا باب أن يصبح شيخا بيظانيا لو لم تحدث على يديه بعض الكرامات، لكننا نجد تكتمه المعهود في هذه المسألة، فتراه يلعب دور الممثل والوسيط للانتقام الإلهي (التزبّة) ضد بني حسان الغاصبين أكثر من دور المهرج بالمعنى الدقيق للكلمة.

وقد أصبح الانتقام الإلهي اختصاصا له: وسنذكر الكثير من تلك الحالات التي يقتص الله له فيها من خصومه فقد قام ابراهيم السالم ابن الأمير محمد الحبيب ووالد الأمير الحالي أحمد سالم الثالث يوما بالاستيلاء على إبل الشيخ. فذهب هذا الأخير في طلبه فلما جاءه طلب منه إعادتها عارضا عليه صفقة معينة فوافق إبراهيم في نهاية المطاف لكنه حلف بألا تتكرر الحادثة أبدا، وأنه لن يعيد في المستقبل الإبل المنهوبة، فرد عليه الشيخ قائلا: حسنا ، لن تعيدها لكن اعلم من جهة أخرى أنك لن تأخذ بعدها إبلا أخرى أبدا .
وبعد يومين بالفعل اغتيل ابراهيم غدرا على يد ابن عمه محمد فال ولد سيدي الذي باغته هو وشقيقيه لبات والأفجح عند ساقية إدينيش بأمر من شقيقهم الأمير إعلِى (چمبت).

وقد حدث أيضا في وقت كان فيه المختار ولد محمد ولد سيد احمد زعيما لقبيلة أولاد دمان أن قامت سرية من هذه القبيلة الحسانية بنهب إبل أتباع الشيخ. وكان ذلك عند الغروب ورجعوا بأقصى سرعتهم إلى أحيائهم لتفادي مساعي الشيخ الذي أرغمهم بدعائه وتضرعه على إعادة جزء من الغنيمة. بيد أنهم ضلوا طريقهم وهم العارفون بمسالك الصحراء، وظنوا أنهم في طريقهم إلى مخيمهم فوجدوا أنفسهم في الصباح عند مخيم الشيخ نفسه، فأحسوا بالندم أمام هذه الكرامة، وأعادوا المواشي المنهوبة إلى أصحابها وتابوا إلى الله.

وذات يوم كان الشيخ سيديا في معركة مع قبيلة إجيجية فألقى على أعدائه حفنة من الرمل فلاذوا بالفرار.

ولنختم بهذه الحادثة التي حدثت مؤخرا. فقد هرب سيدي وولد الديد ابني محمد فال بعيد اغتيالهما لأمير الترارزة أحمد سالم الثاني سنة 1905م، وأخذا معها بعضا من إبل الشيخ، الذي يدينان له رغم ذلك بحياتهما، فقال الشيخ سيديا(باب): << لن ترجعا أبدا إلى هذا إلا بعد أن تقعا في يدي وتتعرضا للمذلة >> وقد حدثت تلك الواقعة بالفعل بشقيها فقد استسلم ولد الديد في نهاية المطاف عام 1910 م بوساطة الشيخ سيديا، أما سيدي فلا يزال حتى الآن منشقا، وإذا ما نجحت المفاوضات التي تجرى حاليا، فإنه سيستسلم بدوره على يد الشيخ.

ولم يكن الشيخ سيديا كثير الأسفار خارج منطقة الترارزة، فقد زار (العاصمة) سنت لويس Saint-Louis مرتين أو ثلاث مرات، وزار داكار مرة واحدة بمناسبة زيارة وزير المستعمرات السيد ملييز لاكروا (Mllies Lacroix) لها سنة 1908م. وعلى الرغم مما عبر عنه غالبا من نية في الحج إلى بيت الله الحرام، إلا أنه لم يكن لديه أبدا من العزيمة ما يمكنه من أن يتخذ قرار الحج ويسلك طريقه، وربما يعود ذلك إلى الهموم المتنوعة التي سببتها له صراعات أولاد ابييري مع قبيلتي إچيچبَه وأولاد باسْبَع.

ويمكننا القول إن الشيخ سيديا(باب)، الذي ورث وضعا قائما، وهو المفكر المتزن وعدو المغامرات، قد تمتع بحياة أكثر هدوءا واجتهادا في التحصيل والمعرفة مما يمكن لشيخ صحراوي أن يحلم به.

أما من الناحية البدنية فإن الشيخ سيديا كان طويل القامة، جميلا، ذا لحية وشعر أبيض، أقرب إلى البدانة وضعف البنية، وقد زادهما انعدام التمارين الرياضية، والموضة التي تتفاخر بها قبائل الزوايا، وكان على خلاف البيظان الذين يلبسون عادة القماش الغيني الأزرق يرتدي زي زعيم الطريقة وهو عبارة عن لباس أبيض من رأسه حتى قدميه مكون من سروال أبيض وقميصين كبيرين فضفاضين (لباس يسمى محليا بـ "الدراعة" شبيه بالجلابية الجزائرية، ورداء أبيض من القطن (يسمى محليا بـ "الحولي" وهو يحل محل القلنسوة غير المعروفة تقريبا في موريتانيا، يلف حول الرأس بحيث لا يظهر منه سوى الجبهة والأنف والعينان. وكان حينما ينوى القدوم إلى المركز العسكري بأبي تلميت أو الخروج من المخيم يحتذي للركوب على ناقته أو فرسه، خفين أصفرين من صناعة مغربية من نوع تقليدي يرتديه القواد العسكريون والزعماء الدينيون في بلدان شمال إفريقيا .

2- مخيمه
يوجد مخيم الشيخ سيديا في أبي تلميت و(تعني مكان العشب الناعم) على بعد 1500 متر إلى الشرق من المركز العسكري. وكان هناك منخفض عريض (الگود) يفصل بين الكثيبين الرمليين اللذين بنيت فوقهما على التوالي المباني التي تمثل مقر دائرة الترارزة ومخيم الشيخ سيديا. وكان مخيم الشيخ سيديا باب يضم على الأقل مائة خيمة تنتشر بشكل عشوائي على عرض مساحة الكثيب للاحتماء إما من تدفق الأتربة أو من انهيارات التربة، أو غابات الأشجار الصغيرة وشجيرات التمر الهندي .

وتتنوع أشكال تلك الخيم وموادها المصنوعة منها. وقد صنع الجزء الأكبر منها ، وفقا لحاجة مجتمع البيظان من مزيج من وبر الإبل والغنم. إلا أن الكثير من خيام التلاميذ الفقراء كانت تصنع من القماش الغيني الأزرق. ويمكن أيضا مشاهدة بعض الخيام الجميلة المصنوعة من القماش الفرنسي الأبيض يسمى محليا "ملكان" وتبدو شديدة الشبه بالخيمة العسكرية الكبيرة المستعملة في شمال إفريقيا والتي يطلق عليها اسم "الخيمة" (marabout)، وترتفع تلك الخيام على مساحة معينة بحسب عادة القبائل الموريتانية وتحاط بالستائر المعروفة ولم تكن توجد بالمحيم إلى ذلك الحين الخيمة المغربية المعروفة باسم الطراحية (terrahia) المشهورة بفتحاتها، باستثناء تلك التي أدخلها كبار المشايخ سواءا كانت هدية حصلوا عليها من الحكومة العلوية المغربية أو اشتروها بمالهم.
وكان مخيم الشيخ سيديا باب يحتوى على اثنتين منها حاله حال مخيمي الشيخ سعد بوه والشيخ أحمد بن سليمان شيخ قبيلة أولاد ديمان.

وتتكون إقامة الشيخ سيديا من ثلاث خيم جميلة وواسعة صنعت اثنتان منها من خليط من وبر الإبل والغنم، وهي بيت زوجاته وأبنائه الصغار دون سن الرشد وإمائه. أما الثالثة فقد صنعت من القماش الأبيض ويستعملها سكنا شخصيا له، ومكتبة وقاعة استقبال.
أما بناته الكبريات والمتزوجات، وكذا أصهاره، وكبار تلاميذه المقربين منه، فيوجد كل منهم في خيمته أو خيمه.

أما أثاث بيت الشيخ سيديا فهو الأثاث المعروف في كل الخيم البيظانية: حصائر ، صناديق، وحقائب وأوعية، وأسرة ذات أرجل للملابس وغيرها ومضاجع من الجلد، وأغطية مصنوعة من الجلد تسمى محليا بـــ "الفارو"، وفي الأخير أدوات المطبخ المعروفة. ويمكننا علاوة على ذلك أن نشاهد في خيمة الاستقبال بعض الزرابي والأرائك المصنوعة من الجلد والكراسي الطويلة التي لا تجدها في باقي الخيم .

وعادة ما يستقر المخيم في مكان واحد لكن لبضع سنوات فقط. ويوجد مخيم الشيخ سيديا الذي كان يوجد في الماضي في حظيرة مسورة (حوش) في تندوجة وفي تامرزگيت (المكان المبارك) وفي الملحس وفي تيدي املين، وفي الميمون (المكان المحظوظ)، وفي الذراع الأبيض، وفي آجوير وعلب آدرس منذ تسع سنوات في أبي تلميت. ويبدو أن الحدث الأخير لاستقرار الفرنسيين قد شجعه على البقاء بالقرب من المركز العسكري. إلا أن المخيم لم يكن يستقر في مكان واحد: فهو يتنقل كل شهرين تقريبا عندما يظهر روث الماشية وإضرار الطفيليات بأصحابها أن المكان لم يعد صالحا، فيطوي أمتعته ويستقر في مكان مجاور على بعد خمسمائة متر، ويترك للشمس والعواصف الرملية والأعشاب مهمة تطهير المكان وهذا لا يسمى "رحيلا" بل تغيير المكان أو "تبديل المراح".
وقد ظلت قطعان الماشية ورعاتها وقسم من ملاكها خاضعين لقوانين الانتجاع الموريتانية، ففي كل عام تسارع قطعان الإبل والغنم والماعز مع مخيمات الانتجاع الصغيرة عند قدوم موسم الأمطار في بداية فصل الخريف عند الموريتانيين وهو منتصف شهر أغسطس المعروف محليا باسم (تودچي)، إلى الأماكن التى يوجد فيها الكلأ والعشب وهذه الأماكن بالنسبة إلى أهل الشيخ سيديا ، كما في الشأن بالنسبة إلى مجموع أولاد ابييري ، هي مناطق آوكار وآمشتيل وآگان شمالي منطقة الترارزة و لا يعودون منها إلا مع بداية فصل الصيف في منتصف شهر مايو عندما تكون الحشائش قد تلاشت إثر سقوط الأمطار. ولا يبقى بالقرب من الآبار الموجودة في الجنوب سوى الأبقار وقطيعين أو ثلاثة من الغنم والماعز : فلا يمكن للأبقار بالفعل الاستغناء عن الشرب حتى عندما يكون العشب أخضر ورطبا، أما فيما يتعلق برؤوس الغنم والماعز القليلة التى تتخلف عن الركب، فإنها تشكل مخزونا من اللحم الطازح في متناول المخيم.

وقد بلغت الثروة الحيوانية لدى عائلة الشيخ سيديا(باب) وسيدي المختار في إحصاء أغسطس عام 1910م ما يلي:
300 رأس من الإبل، 380 رأسا من البقر، و 105 من العجول، و4500 رأس من الغنم والماعز، و 40 من الحمير، و20 من الخيول.

وكان التزود بالماء وسقي المواشي يتمان عند ساقية أبي تلميت، وكان الشيخ سيديا باب قد أعدها بعناية منذ سنوات في نفس الفترة التي بنى فيها إلى جوارها في منطقة الگود ذاتها قلعة مربعة صغيرة تحتوى على غرف متوازية. وقد استعمل تلك القلعة لسنوات عدة مخزنا للحبوب والكتب وعند قدوم الفرنسيين جعلها تحت تصرفهم وقد ظلت تلك القلعة مشتركة نوعا ما رغم أن المركز العسكري قد بني في تلك الفترة. ويمكن أن ترى فيها على السواء تعايش ضباط الصف الفرنسيين المقيمين فيها في وئام تام مع تلاميذ الشيخ وزواره، وبعض الموظفين الذين استعملوها محلا مؤقتا لإقامتهم أثناء مرورهم بالمنطقة، بل كانوا يمكثون فيها لبعض الوقت كانت تقدم فيها دروس مدرسة أبناء الشيخ الفتية بأبي تلميت. وإلى جانب القلعة بالقرب من مخيم الشيخ تنتصب التجمعات التي تكونت نتيجة للوجود الفرنسي وهي: "أدباي" أو قرية الخدم السود المحليين الصغيرة، وبيوت ممثلي القبائل، وكذا الحدائق والآبار التابعة للمركز العسكري.

هكذا كان التجمع الحضري لأبي تلميت يتكون من قطبي جذب متحدين هما: المركز العسكري الفرنسي (مكاتب الدائرة ومقر المندوب السامي، والمدرسة ومحل للتمريض، ووكالة خاصة) ؛ ومخيم الشيخ سيديا، وقد ضربا معا على كتيب رملي مشكلين طوقا حول قرية الخدم وبيوت ممثلي القبائل "النواب".

وقد أعطى التدفق المتواصل دون انقطاع لقطعان الماشية التي تشرب من كل الآبار، وتردد المرضى العضويين الاجتماعيين والعقليين جيئة وذهابا بين محل التمريض ومكتب الحاكم العسكري، وبين مكتب الحاكم العسكري وخيمة الشيخ على الدوام لهذا الربع من الصحراء حيوية كبيرة نسبيا، فاكتست أبو تلميت المدينة - القبيلة، حلة العاصمة.

أما الآبار الأخرى التي تملكها قبيلة أولاد انتشايت فهي : بئر أنتورجه (24) مترا)، وبئر الميمون (30) (م) وتندوجه (25م) وتامرزگيت (26م)، وتيدي املين (27م)، وبئر السيد (25م)، والشبارية (7م)، وعقلة حيمودان (5م) والبعلاتية (3م).
وفي منطقة فاي: لعقيلات (25م)، وتنواجيل (12) (25م).
وكان أولاد ابييري جميعا يستعملون تلك الآبار بحسب الحاجة.

أما الشيخ سيديا (باب)فكان يعيش حياة هادئة وسط قومه وكان على الدوام يعيش تحت خيمته ولا يخرج منها أبدا إلا ليتمشى قليلا أمامها، أو ليذهب إلى المسجد و لم يكن يتجول أبدا في المخيم، ولا يتدخل في أي شأن من شؤونه.

وكان في بعض الأحيان يحبس نفسه أياما عديدة بل وحتى لعدة أسابيع في خيمته، ولم يكن أحد يقترب منه في تلك الفترة لا من نسائه وأولاده، ولا من بني حسان المحاربين على وجه الخصوص. باستثناء أمة عجوز كانت تأتيه بالحليب الذي يقتات منه والماء الضروري لطهارته.

وكان عندما ينوى الخروج من المخيم يركب ناقته إذا كانت المسافة طويلة، أو فرسه إذا كانت قصيرة، وكان يرافقه ثلاثون من تلاميذه من مختلف الأعمار يتوكأ عليهم بلطف عندما يسير على قدميه، ويشدون أزره، ويحيطون به ويعضدونه وتوجد هذه العادة أيضا لتكريم الأمراء وكبار الوجهاء، ولا يفارق كل هؤلاء الشيخ إلا بأمره الجازم مكرهين على الدوام، وتتكرر نفس الطقوس في مخيم الشيخ عندما يستقبل ممثلا للسلطة، ويصبح الشيخ أكثر حرية عندما يتخلص من هؤلاء الناس فيبدأ بالتدريج في تفقد شعر رأسه، وفمه ثم لحيته وقد يضحك بقوة ملء شفتيه. حتى إنه ليصل أحيانا إلى حد القيام بحركات كثيرة وبخاصة إذا كان الموضوع مما يثير عاطفته.

وعندما ينهض يلف رداده حول رأسه ويستعيد وقاره وتكلفه الذي تفرضه عليه العادات، ويسترد هيته والضرورات التي يفرضها عليه أتباعه. وما إن يظهر على عتبة الخيمة أو القاعة حتى تتلقفه زمرة التلاميذ الذين ظلوا في انتظاره على أعقابهم، وليس المسجد بطبيعة الحال مبنى مشيدا ولا حتى خيمة، بل هو رقعة من الأرض يحافظ بعناية على نظافتها، محاطة بسور من الشجيرات المعمرة لا هي بابسة ولا هي رطبة، ويأتي الشيخ إلى المسجد، الذي يقع على بعد خطوات من خيمته، ليوم الناس في معظم الأحيان".

كامل الود

إضافة تعليق جديد