يقول كمال آتاتورك بعد أن تسلّم الحكم، وقرّر قبر دولة الخلافة العثمانية، وأطلق مشروع علمنة تركيا الساري المفعول إلى حد الآن: “أريد أن أكون ذيلا للغرب على أن أكون رأسا للشرق”. وعاشت تركيا قرابة قرن من الزمان على هامش أوروبا، حلم شعبها أن يظفر بهجرة إلى ألمانيا أو النمسا أو الدول الاسكندنافية وحتى إلى اليونان، إلى أن أحدثت الصحوة الأخيرة الثورة التركية المعاصرة، التي رفضت الذيل، وما عادت تقبل أقل من الرأس ليس في الشرق، وإنما أيضا في الغرب، وموقفها الأخير من قضية فلسطين، حتى وإن كان لا يكفي، إلا أنه أحسن بكثير من بعض المواقف العربية المطبّعة، الباحثة عن مكان في ذيل الجسد الأمريكي ولن تلقاه.
لا أحد تمكّن من فهم الموقف الغريب لفرنسا من قضية العدوان على غزة، فقد حاول رجل الإليزي أن يكون إسرائيليا أكثر من إسرائيل، بل أعطى صكّ حبّ ووفاء وإخلاص على بياض، للصهاينة عندما قال وكرّر إنه معهم اليوم وغدا وبعد غد، وهو ما لم يقله بايدن ولا رئيس وزراء المملكة المتحدة ريشي سوناك، وفي كلمته في تل أبيب، تجاهل آلاف القتلى من أطفال فلسطين ونسائها، وراح يقول للإسرائيليين إنه يشعر بحُرقتهم ويؤيدهم من دون أي تردد فيما يقومون به، لأنه اكتوى مثلهم بما سمَّاه “الإرهاب”، وراح يخلط ما بين داعش وحماس، في معادلة غريبة، لا تعني إيمانه بالصهيونية العالمية فقط، وإنما بجهل الرجل لما حدث ويحدث حاليا فما بالك بالمستقبل الذي اختصره بالقول إنه مع الصهاينة غدا وبعد غد.
عُرفت فرنسا على مدار تاريخها برجالها الذين كانوا يتمتعون بقوة الشخصية، فبالرغم من ظلم بعضهم وجبروتهم، إلا أنهم كانوا يبذلون في سبيل الأمة الفرنسية، ولا يرتمون في أي حضن غير فرنسي، من زمن أدولف تيير إلى زمن جاك شيراك، مرورا بديغول وبومبيدو وميتيران، ولكنها في الفترة الأخيرة لم تكتف بتراجعها في شتى المجالات الثقافية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، ولولا انتمائها إلى النادي النووي لكان حالها مثل أي دولة أوروبية ضعيفة، تقتات من الاتحاد الأوروبي، ما شاءت لها بقية البلدان.
الحسرة التي شعر بها بعض الفرنسيين من موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومن كلامه وأفعاله من خلال الإصرار على أن يكون ظلا للولايات المتحدة الأمريكية، نتفهّمه، لأن ماكرون يريد مع سبق إصرار، لأن يكون ذنبا في الجسد الأمريكي والإنجليزي، قابرا وللأبد تلك الإمبراطورية الفرنسية التي نافست بريطانيا في كل القارات وفي كل المجالات، قبل أن تفقد كل بريقها، وبدلا من التقرُّب من الشرق لتمنح لنفسها رأسا محترما يفكر في تاريخ فرنسا ومستقبلها، رضيت بأن تكون ذيلا تابعا لأمريكا حيثما سارت تسير.. حتى ولو كان ذلك على حساب كرامتها!