تتخبط فرنسا في يوم دام، يوم من أيامها السوداء، جلبته لها يد "داعش" بحسب المعطيات الأولية، وليست داعش في حقيقة الأمر إلا أداة لهجمة مرتدة طبيعية، تغافلت عنها فرنسا، وهي توجه بوصلة الإرهاب، داعمة الحركات المتشددة على اختلافها، واختلاف ايديولوجياتها وأفكارها ومبادئها، بحيث تجد فرنسا في مقدمة صفوف الدول الداعمة لقلب الأنظمة العربية، دون أن تلتفت لحقيقة بعض معارضي تلك الأنظمة، وفي نفس السياق تدعم الفوضى الخلاقة أملا في أن تنحت منها وطنا مشتهى لأبنائه بزعمها، كما أنها في كافة تدخلاتها العسكرية والسياسية قبل العسكرية تبدو متصلبة الأفكار، فهي تقف موقفا واحدا منذ البداية لا يتبدل، ولا يتغير، ولا يراعي تغير المعطيات بشكل دقيق.
لقد كان ما حدث في فرنسا منتظرا بشدة، ومنطقيا إذا ما أخذنا بحقيقة ما كانته فرنسا في السنوات الخمس المنصرمة، وما مثلته من دعم واحتضان لقيم غريبة على ثقافة حقوق الإنسان، وحرياته الأساسية، فقدم فرنسا لم يكن في مكانه المناسب، الذي ينبغي له أن يكون فيه، وهنا سنتعرض لجملة معطيات من خلالها نلغي الضوء على جذور هجمات الأمس الدامية –التي نتعاطف بطبيعة الحال مع ضحاياها من الأبرياء والمدنيين-، فهجمات الأمس كانت قاسية ومزلزلة ومجلجلة، وستكون منعطفا كبيرا في معاملات فرنسا مع فرنسا والآخر مهما كان بعده وقربه، وطبعا تبدو المؤشرات دالة دلالة عميقة على ارتباك فرنسي كبير، وخوف من المجهول يتنامى مع اللحظات، ليرتفع منسوبه، ففرنسا قامت بأمرين مهمين جدا، أولهما إعلان حالة الطوارئ، وثانيهما تعليق العمل بفيزا شينكن.
إن تتبع المسار الفرنسي في الحكمين السابق والحالي، لينبئ بموعد متجدد لفرنسا مع الإرهاب، ففرنسا ساركوزي قامت بالكثير من المغامرات الغير محسوبة العواقب، فتبنت الربيع العربي بشكل سلبي، وتعاملت مع المجموعات الإرهابية بارتجالية كبيرة، في حين أورثت إدارة هولاند نتائج تلك المغامرات، وتابع هولاند نفس النهج السركوزي في التدخلات في شؤون الغير بشكل سلبي على فرنسا، وجاءت اتشارليايبدو لتضع فرنسا أمام مسؤولياتها التاريخية، فلم تزدد فرنسا إلا طغيانا وجحودا، وأظهرت اتشارلي بمظهر الضحية، ولم تدرك فرنسا أن تقديراتها خاطئة، وربما لن تدرك ذلك إلا بعد أن يفوت الأوان عليها، وعلى الجميع.
ويمكن التعرض لنقاط أساسية لفهم مشكل فرنسا مع الإرهاب، ومع الحنق المتصاعد ضدها في شعوب العالم ككل، والعالم العربي خصوصا، الذي اكتوى بنار فرنسا كدولة استعمارية، وكدولة متدخلة لقلب الأنظمة، وكدولة داعمة للحركات الإرهابية، وكدولة مسيئة للأديان، وذلك كالتالي:
فرنسا كدولة استعمارية:
إن انتشار فلسفة الحقوق في العالم أدت دون أن تشعر الدول الامبريالية إلى ردات فعل عكسية، ضد مصالح تلك الدول، فأبناء المستعمرات لم يرقهم أن تغفر الدول الامبريالية لذاتها قتل وسحل آبائهم، وتتقدم المسيرة المظفرة لحقوق الإنسان، ولا أدل على هذا الكلام من كثرة التجاذبات بين الجالية الجزائرية في فرنسا، وفرنسا، ومواطني فرنسا.
فرنسا متدخلة لقلب الأنظمة:
روى رئيس الوزراء الايطالي الأسبق-برلسكوني- قصة عجيبة عن غيرة الرئيس الفرنسي الأسبق –ساركوزي- منه، بعدما رأى صوره مكبرة إلى جانب القذافي في ليبيا، وفكر –ساركوزي- أن ليبيا صارت هي ونفطها نعمة لإيطاليا برلسكوني، فلم يرقه الوضع، وقرر وضع حد لذلك، بأن يجعل لفرنسا نصيبها المفروض في النفط الليبي، وفعلا تقدم ساركوزي بخطوات كبيرة من أجل القضاء على نظام القذافي، فدعم مجموعات بنغازي، وغيرها، والحركات السلفية المختلفة، وفي النهاية نجح هو و كاميرون بزيارة ليبيا آنذاك، كما نجحوا بإسقاط القذافي، وخرج الشعب الليبي فرحا معربدا، يجوب الشوارع احتفالا، واحتفاء بالحدث، يتراءى له الفجر المشرق، ولكن أين الفجر المشرق؟
لقد وضعت هيلاري كلينتون سؤالا واضحا ومنطقيا على نفسها، بعد أحداث مقتل السفير الأمريكي في ليبيا، فقالت: أيمكن أن يحدث هذا في بلد منعنا ذات يوم أن تقع فيه مجزرة؟
مثل ذلك السؤال كان يجب أن تضعه فرنسا على نفسها، لتعرف أنها لم تقدم للشعب الليبي شيئا يذكر، ولم تفعل مع الشعب السوري، وتصاعد الحنق ضدها في النهاية، فلقد أدركت الشعوب العربية أن فرنسا بدل أن تضغط وتجد سبلا بديلة لقلب تلك الأنظمة أججت العنف، فما فعلته هو وضع فوضى خلاقة مستديمة، جعلت الارهاب يتنامى، والشعور بالغبن، واكتشفت الشعوب المساعدة أنها خسرت الأمن والأمان بسبب فرنسا ومن مشى مشيتها، ومن هنا فمن الطبيعي أن تكون هنالك أفعال انتقامية، لا يحدوها إلا عامل واحد أوحد هو الانتقام من بلد ساعد بلدا وشعوبا على أن تصير عرضة للنهب والسلب، وغياب الأمل.
فرنسا كدولة داعمة للحركات الإرهابية:
دعمت فرنسا حركات جهادية، وسلفية متشددة من أجل القضاء على بشار الأسد، وكانت في ليبيا دعمت حركات مشابهة، وتمادت في الدعم في هذا الاتجاه، وشيئا فشيئا تكاثرت زوارق الموت، وتكاثر النازحون من المناطق الملتهبة، وانصبوا على أوروبا بما فيها فرنسا، وإن كان معظمهم يرفض اللجوء لفرنسا، نظرا لدناءة طابع اللجوء، والمحفزات الفرنسية السيئة قياسا بالدول الاوروبية الأخرى، ومن المنطقي أن بعض اللاجئين لن يكونوا مواطنين صالحين، ما لم يحظوا بتأهيل وإعادة تأهيل، فمعظمهم فقدوا أهلهم وعشائرهم وضمائرهم بسبب الحروب الدامية، وشحوب الحياة، وانتشار الجريمة المنظمة.
وبعض أولئك لن يحملوا لأوروبا إلا كأسا واحدا، ممتلئا بمحبة الانتقام من دولة ساعدت في نشر الخراب، ربما دون أن تفكر في العواقب الوخيمة.
فرنسا كدولة مسيئة للأديان:
من المعلوم أن الصكوك الدولية ومواثيق حقوق الانسان تعطي للفرد حق حرية التدين، وتغيير الدين، ولكنها في ذات السياق تحث على احترام الأديان، وعدم الإساءة إليها، وتتبنى النظرية الحقوقية الراسخة، التي تنهي حرية الفرد في حد حرية الفرد الآخر المقابل، لكن فرنسا، وهي دولة عظمى كان يجب أن تراعي احترام الأديان وفرت مناخ حرية زائدة، حرية أصاب شررها المتطاير أديان الآخرين.
لقد هاجمت فرنسا ممثلة في شارلي ايبدو نبي الرحمة محمدا "ص"، واضعة حدا لكثير من الاعتبارات، التي كان يكنها وسطيو الإسلام لفرنسا النصرانية العلمانية، وقد انتفض العالم من مشارقه ومغاربه منددا بفعلة شارلي الشنيعة، لكن فرنسا يومها جعلت الحرية تبدو مطلقة، واحتضنت الجريدة الآثمة، ودولت احتضانها لها، فاحتضنها عالم آثم آخر تضامن حينها مع طيش شارلي وعهرها، وفرنسا الواعية بما فعلته يومها، كان عليها أن تقدر حجم الخطيئة، ليس من منظور فرنسا، بل من منظور المسلمين في جميع بقاع العالم، فحتى الأنظمة العربية النازحة والرازحة لا تستطيع ضمان ردات الفعل ضد فرنسا في بقاعها، والعالم الإسلامي الآخر بالمثل.
فرنسا والحرب الباردة:
لم تغير فرنسا برغم ما شاهدته من تحول منطقة الشرق الأوسط إلى ساحات حرب مفتوحة سياساتها، في محاولة مستميتة لمنازعة روسيا في الشأن، ما أعاد إلى الاذهان شيئا من ذكريات الحرب الباردة بين الغرب بزعامة أمريكا، وبين روسيا، وقد أظهر بوتين غير ما مرة استهزاء بالمواقف الغربية، وصمودا وثباتا بجدارة واستحقاق على مواقف روسية خاصة اتجاه حلفائه في الشرق الأوسط، وبخاصة نظام بشار الأسد.
ولقد أدى إصرار فرنسا على لعب دور كبير إيجابي في المنطقة، إيجابي بمعنى تدخل بالسلوك والفعل إلى انتشار مجموعات مسلحة ظلت تنقسم وتتصارع ناشرة الدمار والخراب، في الوقت الذي اصبحت فيه تهدد العالم، وتبشر بنهايته، فقد امتدت بكل الاتجاهات، وتحصلت على السلاح اللازم، والخبرة، بل صارت تصنع العبوات الناسفة، وتتفنن في صناعة الموت، وشيئا فشيئا نزحت تلك المجموعات بطريقتها إلى أماكن مجهولة، وبيئات حاضنة جديدة، ستكون بوابة لحمم لا يدري أحد مداها.
وتبقى تحالفات فرنسا مع بعض المجموعات المسلحة مهددا أساسيا للأمن الفرنسي، في حال غيرت فرنسا موقفها من بعض تلك الحركات، أو تدخلت عسكريا في مرحلة ما من أجل المساس بتواجد طرف مسلح على حساب الآخر، علما أن الفوضى الخلاقة لا تخلق الأنظمة، ولا تعترف بها، ولا تحافظ على الصداقات مهما كانت.