من كان يتصور أنه سيعيش في زمن يقرأ ويستمع فيه لأطروحات لا يمكن وصفُها إلا بالمتَصْهينة والانهزامية؟ لقد وصل الأمر ببعضهم إلى التساؤل: لماذا “يستفز” المقاومون الفلسطينيون مغتصب أرضهم؟ ولماذا يجرؤ أهل غزة على مقارعة أقوى جيوش المنطقة، ثم تكون النتيجة آلاف القتلى والجرحى؟
ومنذ شرارة “طوفان الأقصى”، تعجّ شبكات التواصل الاجتماعي وحتى الصحف والفضائيات بهذا الصنف من المثبِّطين، الذين هم بالتأكيد عرب ومسلمون لكن الفكر الصهيوني احتلَّ عقولهم، فلم يكتفوا بخذلان إخوانهم الفلسطينيين، بل وصلوا إلى حد المساواة بين الضحية والجلاّد وتقديم الأعذار للكيان الغاصب لتنفيذ محرقته في غزة.
كنَّا في السابق نلوم أنظمة عربية وإسلامية على خذلان الشعب الفلسطيني، وهناك من وجد لها الأعذار في غياب الشرعية الشعبية وغرقها في الحسابات السياسية والإستراتيجية، لكن أن تتحول أقلام وأصوات إلى أبواق تبرر للصهاينة أفعالهم، فنحن أمام مسخ فكري وعقائدي غير مسبوق.
ولم يعد الحديث عن الجانب العقائدي كافيا لتذكير هؤلاء بأن فلسطين والمسجد الأقصى هما قضية كل مسلم، لأن مواقفهم لم تعد ترقى حتى إلى تلك التي سجّلتها شخصياتٌ وقادة دول من خارج العالمين العربي والإسلامي، تنظر إلى فلسطين على أنها قضية إنسانية ومعركة شعب تحت احتلال استيطاني عنصري منذ عقود.
وهذه القضية التي لها زاوية بسيطة لفهمها وهي أن الفلسطينيين شعبٌ تحت الاحتلال وهذا مبررٌ كاف لأي شعب في العالم لكي يقاوم، هناك من يستكثر على أهل غزة والضفة قولهم لا لهذا الاحتلال العنصري، وهذا الوضع يدفعنا إلى طرح سؤال بسيط: ماذا يريد هؤلاء المرجفون من هذا الشعب المستضعَف؟
وبالعودة إلى معركة “طوفان الأقصى”، التي اعترف فيها الصهاينة وحلفاؤهم أن المقاومة أظهرت عبقرية غير مسبوقة في تمريغ أنف الاحتلال وزعزعة أركانه في ظرف ساعات، إلا أنّ هناك بيننا في العالمين العربي والإسلامي من مازال يلوك تلك الأسطوانة المشروخة حول “الحروب العبثية”.
وهذه الأسطوانة في الحقيقة يُطوِّر المرجفون نسخها كلما أبدعت المقاومة في ابتكار أساليب جديدة لمقارعة الاحتلال، فالسخرية بدأت من أطفال الحجارة ووصلت إلى الصواريخ العبثية مرورا بخدمة أجندات إقليمية، وكأن قدر الفلسطينيين هو الرضى بالاحتلال واقعا والاستسلام له.
لقد جرَّب الفلسطينيون خيار التفاوض والالتزام باتفاقيات السلام التي كانت قوى دولية الضامنَ فيها، لكنهم اكتشفوا أنه بعد ثلاثة عقود عن اتفاق أوسلو 1993، قضمت إسرائيل قرابة نصف مساحة الضفة الغربية وجعلتها مجرد أرض مقطعة الأوصال لا تصلح حتى لإقامة بلدية عليها وليس دولة ذات سيادة، ناهيك عن الحفريات في الأقصى وتدنيس المقدسات على مرآى ومسمع عالم هبَّ اليوم للنحيب على طفله المدلل بعد أن حطّمت المقاومة حلمه بإقامة دولة “إسرائيل الكبرى”.
وعادت هذه الأصواتُ الناعقة هذه المرة لتحميل المقاومة مسؤولية المحرقة الانتقامية التي ينفذها الصهاينة في غزة، بعد أن أفاقوا على هجمات لم يسبق أن أوقعت هذا العدد من القتلى في أوساطهم حتى عندما واجهوا عدة جيوش عربية مجتمعة.
ورغم أننا لسنا بحاجة لتقديم أدلة على أن الاحتلال الإسرائيلي لم يكن يحتاج إلى سببٍ للقتل والتنكيل بالفلسطينيين، وهناك مثَلُ الضفة التي ليس بها صواريخ، فإن على هذه الأصوات التي تحركها نفسية انهزامية ومتصهينة أن تعطينا مثلا واحدا في التاريخ لشعب كان أقوى عتادا وعدة من دولةٍ احتلّته، وأن شعبا تحرر من نير الاحتلال بحسابات ميزان القوة.
كما أن من يستغلّون ورقة المذابح في غزة لتبرير عبثية نهج المقاومة، عليهم أن يعلموا أن هذه الحروب والمعارك بين الغزاة وأصحاب الأرض لا تُحسب نتائجُها بالخسائر البشرية والمادية، بل بتحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة ونتائجها السياسية، وغزة بقيت عصية على الاحتلال منذ تحريرها في أوت 2005، كما أن الاستعمار الفرنسي قتل 45 ألف جزائري في يوم واحد يوم 8 ماي 1945، لكن ذلك كان شرارة أشهر ثورات القرن العشرين والتي كانت كلفتها مليونا ونصف مليون شهيد، لكن ثمرتها كانت أيضا طرد استعمار همجي دام 132 سنة، ولم يتصور قادته يوما أن يغادروها أذلّة بتلك الطريقة.