كناش الجمعة /من مذكرات معلم في الأرياف 1/2 محمد مني غلام

8 أكتوبر, 2023 - 01:49

ذكرتتي قوافل المعلمين المتجهين  لأماكن عملهم هذه الأيام  برحلتي الاولى إلى مكان عملي 
كان ذلك قبل زهاء ثلاثة عقود من الزمن كنت وقتها شابا يافعا لما ابلغ العشرين من عمرى 
عشرون حولا قضيتها بمنزلنا بالسبخة
 السبخة المدينة التى كبرت كطفل أمام ناظري وتحولت من قيعة تتناثر فيها أكواخ وخيم إلى مدينة تتعانق فيها العمارات عشقت تلك المدينة بعنف وهي التي حفظت شوارعها شارعا شارعا و تعفرت برمال ساحاتها قبل أن اخون ذاك العشق في أول لقاء مع جبال آدرار وأوديته الجميلة 
اصطحبتني قافلة من مدينة أوجفت مساء ذاك اليوم المشهود 
كان القوم  يقومون بتسجيل قائمة مرشحيهم للانتخابات للبلدية فترامى لمسامعهم أن معلم " لمصيدي " يرابط منذ أيام في انتظار من يصطحبه لمكان عمله 
أقلتنا سيارة لمسافة 20 كلم ووادعنا سائقها يبدو انه مجرد تشييع 
وعلينا قطع العشرين كلم الباقية دون المداح 
المداح هو الآخر مجرد محطة في رحلة 93 كلم 
حمل احدهم حقيبتي على عاتقه وحث القوم خطاهم بين الصخور وما هي إلا دقائق حتى حل الظلام لنواصل السير بين حواف الصخر ونصعد ونهبط التلال بدأت الهث وكانوا يطمئنوني بأن المسافة لا تعدو " زرك الدبوس " غير ان ذلك كله اتضح انه بمقاسات رجل السهل والجبل لا بمقاسات فتى " السبخة " 
قبيل الفجر بقليل برزت خيمة في جوف الصحراء كان القمر الآئل للمحاق يرسل ضوءه الباهت ليكشف لنا ذاك الخباء المستلقي في حضن الصحراء وكأنه يفضح سرا 
القوم تبادلوا كلمات ذكروا فيها اسم  صاحب الخيمة - يبدو أنهم رتبوا مبيتهم هنا -  وماهي إلا دقائق حتى كنا أمام ذاك الخباء
ترحيب الرجل الدافئ بنا و سرعة  القرى بدا وكأنه تلقى اتصالا هاتفيا في وقت كنا نبعد فيه بأكثر من  عقد من الزمن عن حقبة  الجوال 
كانت تلك هي أولى مفاجئات تلك الارض التي عشقتها حد التبتل في ما بعد غير ان سؤالا آخر ظل يتردد برأسي ترى كيف استطاع هؤلاء أن يعرفوا مكان هذه الخيمة المدفونة ما بين الجبال والتلال في الهزيع الأخير من الليل 
كيف تمكنوا من شق طريقهم في هذه  الظلمة والوصول لهدفهم بنسبة خطأ تساوي صفرا 
استلقيت على الفراش الوثير الذي آثروني به بوصفي المعلم وبوصفي "  براني " كانت مفاصلي تضج ألما  وما هي إلا دقائق حتى أحسست أني اصبحت عاجزا حتى عن الجلوس لشدة الآلام التي كنت أعاني منها
الشاي والتمر والدهن واللحم الطري ..كل ذلك اصبح جاهزا في وقت تعجز اكبر مطاعم الدنيا عن توفيره فيه   
كان ذاك أول لقاء مع الكرم الآدراري التليد وكان أيضا اول لقاء فعلي مع عالم الصحراء الآسر  رغم اهوال الرحلة وآلامها كنت اخفي فرحة كبيرة بتلك المغامرة ...

 

لا أدري متى نمت لكني استيقظت فجرا على القوم وهم  يتبادلون أطراف الحديث وقد تحلقوا على  فرن تتراقص ألسنة اللهب منه 
بدا من نشاطهم وكأنهم لم يناموا أصلا صليت وجلت بناظري في المكان كانت " الكاره الزركه " والتي كانت اهم إحداثيات المكان ليلة البارحة تلوح من بعيد ..
تتوسط "  الكاره الزركه " المسافة ما بين اوجفت والمداح ..
شربت الشاي وتفرست في الوجوه من جديد رجال صهرتهم الصحراء وصقلهم الجبل  فاكتسبوا نقاء الأولى وشموخ الثاني 
كل منهم سألني عن حالي وعن " المرثة " 
دخلنا المداح بعد ساعة من السير على الأقدام ..
وسلموني للعمدة شخصيا
 رجل سبعيني بدا مسرورا بالثقة التي أولاه هؤلاء وكنت عربون تلك الثقة 
رحب بي ومد الفراش الوثير " المنطه " أمامي وبدا الرجال يصافحوني واحدا بعد الآخر  وعلى  محيا كل منهم ابتسامة خفيفة كنا في الواقع نتبادل الاكتشاف  ترى كيف قيمني هؤلاء وما ذا ترى تخفي تلك الابتسامة الغامضة  
بدا الرجال وهم يخرجون بقاماتهم الفارعة ككتيبة يونانية تستعد للإغارة 
المداح تلك القرية الواقعة على نتوء صخري ضخم يبدو مجرد بيوتات بلا سكان  إنه يبدو كقرية اثرية هجرها سكانها منذ قرون سألت العمدة بعد ذلك عن سكان القرية قال هم يأتون فقط في موسم الكيطنه ويغادرونها مع انتهاء الموسم أهلك مثلا في لمصيدي ياتون هنا في الكيطنة 
شدت انتباهي كلمة أهلك وأحسست أني أتخلق من جديد 
وكما حدث معي في أوجفت هاهو أحد ساكنة لمصيدي يتصادف وجوده في المداح فيتطوع لحملي إلى تنمرورت حيث يوجد أحد أعيان  حي لمصيدي في مهمة ..
في ذاك الوقت بدأت وشائج ود وشوق  تربطني بأهل لمصيدي 
ترى كيف اشتاق لقوم لم ارهم 
بعد يومين جاء الرجل وهو يقود جملا يميل لونه للحمرة تأملت في هذا الحيوان وكأني أراه لأول مرة 
جاءالرجل  ليقلني إلى تنمرورت كان ذاك بعيد العصر بقليل توجست خيفة من ذلك المخلوق استرقت النظر إليه وتمعنت في عينيه عله يبوح لي بشيئ ما ..
بدا لي المشهد سرياليا منبتا وبلا جذور أقف مزروعا في هذه الصحراء تطوقنا الجبال من كل الجهات بمنظرها المهيب وأمامي جمل تعلوه راحلة مزركشة 
وكانني أتفرج على مشهد حي لمسلسل تاريخي 
افقت من خيالاتي على الرجل يقول 
 هيئت لك راحلة وسنصل وجهتنا مع غروب الشمس لذت  بالصمت فأنا لست على يقين من استعدادي  لركوب الجمل ففي حياتي ما ركبت جملا أحس الرجل بذكائه الفطري بقلقي فاردف " هاذ اجمل مدوب " وضع أشيائى على الكفل حقيبتي الجلدية الكبيرة ومد يده لمساعدتي على ركوب الراحلة استجمعت شظايا شجاعتي التي تناثرت على تلك الصحراء وركبت وأنا أتهيأ للقفز عندما تبدو الامور خارج السيطرة وقف الجمل ببطء وخيلاء وبدت لي الأرض بعيدة ..
لم أسمغ ما قال مضيفى وهو يوادعني كنت في شغل شاغل تحرك الجمل والرجل يمسك بزمامه بدا لي الموقف مخيفا هذا المخلوق يعانق السماء طولا والصخور تبدو كالحة تحتي وأي سقطة من فوق ظهر هذا المخلوق ستكون النهاية 
قلت له سيدي لنعد ونؤجل سفرنا إلى غد صباحا 
 لم تكن هناك وجاهة في اقتراحي وأدرك أنه الخوف ولاشيئ آخر قال لي لا تخف انا امسك ب " لخزامة " 
أحسست بالحرج  أمام تطمينات الرجل وبدوت كطفل يخاف من اللا شيىء فاستجمعت مرة أخرى قواي وقررت أن أواصل السير 
مرت ساعات بدت لي دهرا كان الرجل يعرفني على معالم الطريق هذا  " أكصار " بضع بيوتات وأخبية تترامى على سفح الجبل تبعد جنوب المداح ب 5 كلم وتلك " النعمة " واحة نخيل متشابكة الاغصان تبدو  غارقة في الصحراء ومنكفئة على نفسها وهناك بعيدا " أمطليش،" سلسلة كثبان تمتد من جنوب آدرار حتى مشارف انوكشوط
وعند الغروب بدت كدا تنمرورت العملاقة تلوح من بعيد  مد الرجل اصبعه هاهي ذي تنمرورت 
كان الإرهاق النفسي قد أخذ مداه مني فوجدتني اردد مع ول أعلي رائعته  
ازرك يلعكلل الكنت لام 
من حزمك ذوك ازرورت 
تنمرورت والتيسرام 
وأمور التنمرورت 
دخلنا القرية وقد غابت الشمس
 كنت أشعر  بنظرات الناس وهم يحدقون في باستمرار 
في أعرافهم  ليس من اللائق أن يقاد بغير النساء
تلك معلومة عرفتها فيما بعد  
عبرنا القرية إلى خيمة توسطت شجيرات من الطلح وبدأنا الهبوط 
والهبوط كما الإقلاع له مخاطره وله رهبته 
استقر الجمل اخيرا وقد جثم بهدوء أمام الخيمة تخلصت بصعوبة من أنياب التنين التي تميز الراحلة فاستقبلني شيخ يبدو طاعنا في السن بقدر كبير من الترحاب 
قال لي مرافقي : هذا محمد الشيخ سيرافقك غدا إلى لمصيدي 
يتواصل

إضافة تعليق جديد