عندما قامت منظمة الجيش السري (OAS) الفرنسية يوم 7 جوان 1962 (أي شهر قبل الاستقلال) بحرق مكتبة جامعة الجزائر بشارع ديدوش مراد، كتبت جريدة “لو فيغارو” في اليوم الموالي مبتهجةً بهذا العمل الإجرامي قائلة: “في 7 جوان 1962، غطّت أعمدت الدخان الجزائر العاصمة. لقد تم تفجير مكتبة الجامعة. كان 600 ألف كتاب تحترق. كانت الفرحة عارمة. كما تم تفجير مخابر الكليات أيضا، وكذا مدرّجيْن. لم نكن لنرحل ونترك لهم ثقافتنا وعلمنا” !!
نصف مليون كتاب ووثيقة
وفي يوم 9 جوان 1962، تضيف جريدة “لوموند”: “كان عنف الحريق، الذي يمكن مشاهدته من حوالي 10 كيلومترات، كبيراً لدرجة أن الحرارة أبقت حشود الناس -التي جاءت لمشاهدة الكارثة- على مسافة معتبرة”. كما أحرقت في نفس اليوم مدارس فرنسية عديدة بالعاصمة الجزائرية، فضلا عن معهد العلوم السياسية بشارع العربي بن مهيدي.
ومن المعلوم أن هذه المنظمة الإرهابية قد وضعت آنذاك 3 قنابل في أركان المكتبة فاحترق قرابة نصف مليون كتاب ووثيقة، منها المخطوطات النادرة التي لا توجد في غير هذا المكان. ولم يتمكن رجال الاطفاء إلا انقاذ نحو مائة ألف كتاب حسب بعض الاحصائيات، نُقلت إلى ما يعرف الآن بثانوية عقبة (باب الواد). بل يُروى أن من رجال الاطفاء آنذاك من كانوا يوجهون خراطيم المياه ليس نحو ألسنة النيران التي وصل لهيبها إلى المخابر المجاورة والمدرجات بل كانت توجه إلى جزء المكتبة الذي لم تصله النيران لإغراقها بالماء وإتلاف الكتب والوثائق.
والأكثر من ذلك، أن هناك من يؤكد أن هذه المنظمة التي كانت مناهضة لحكومة ديغول آنذاك، كانت متفقة معها لتدمير محتويات هذه المكتبة قبل الرحيل بعدما نُهب منها ما نهب. وبهذا الصدد تشهد صحيفة “لوموند” في مقال لها صدر يوم 26 أبريل 1962 (أي قبل حرق المكتبة بشهر ونصف) أن حاويات كبيرة تحمل مخطوطات من هذه المكتبة قد لوحظ خروجها من الجامعة لتنقل إلى فرنسا. والدليل على هذا النهب الممنهج أنه لم يتم العثور على أثر أي مخطوط عقب الحريق.
وكان روبرت بورون Robert Buron (1910-1973)، أحد ممثلي الحكومة الفرنسية في مفاوضات إيفيان، قد علق آنذاك على هذا الحريق المهول، قائلا: “أولئك الذين أحرقوا المكتبة أرادوا إغلاق باب الوصول إلى الثقافة الفرنسية أمام النخب الجزائرية، وهم بدون شك يعتبرون أن تلك الثقافة مخصصة لهم دون غيرهم” !
وبعد 61 سنة، يعيب هؤلاء جميعا على السياسة الجزائرية “تخليها” و”مطاردتها” للغة الفرنسية وثقافتها! فأي تناقض هذا؟! على سبيل المثال، عنونت يوم 26 سبتمبر 2023 جريدة “لو فيغارو” أحد مقالاتها حول وضع اللغة الفرنسية في البلاد: “الجزائر تأمر بمطاردة اللغة الفرنسية في المدارس”. والمقال جاء ضمن حملة إعلامية حول مطالبة وزارة التربية المدارس الخاصة بتطبيق القانون الذي يقضي بتدريس البرامج الجزائرية وأيضا باستخدام الكتب المدرسية الرسمية، وليس الكتب الفرنسية.
ويتعلق الأمر بقانون تقاعست وزارة التربية –فيما يبدو- في السهر على تنفيذه بصرامة، فتجاهلته نحو ثلاثين مدرسة خاصة كانت تدرّس البرامج الفرنسية وتهمل البرامج الجزائرية كليا أو جزئيا. وفي مطلع هذا المقال تتباكى الصحيفة بترديدها ما صرحت به إحدى الأمهات كانت تدرّس ابنها في مدرسة يتم فيها التعليم وفق المناهج الفرنسية دون الجزائرية، وهي تطلب النجدة: “ابني في المنزل، لا أدري ماذا أفعل. إنها كارثة. إني أنتظر من المدرسة أن تجد لي حلا…”. من الواضح أن المشكل حقيقي تتحمل مسؤوليته أطراف عديدة.
وما رأي البرلماني الفرنسي؟
فريديريك بيتي Frédéric Petit برلماني فرنسي زار الجزائر خلال سبتمبر المنصرم، كتب بعد عودته إلى بلاده: “في الجزائر، اللغة الفرنسية تتعرّض للهجوم”، وتطرق إلى مسألة تدريس اللغة الفرنسية في التعليم الابتدائي والثانوي، وكذلك في التعليم العالي بالجزائر.
وما كان يهم البرلماني هو: “التأكد من أن الإصلاح الذي اعتمدته الحكومة الجزائرية سنة 2022، والذي أدخل تدريس اللغة الإنكليزية ابتداء من السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية لا يشكل خطرا”؛ وأنه “لا يعرض التعلم التاريخي للغة الفرنسية في مدارس وجامعات الجزائر للخطر”.
بل يحشر البرلماني أنفه في هذا الموضوع ويصرح أن اللغة الإنكليزية “لا تساعد على الانفتاح”. وهو يؤيد “فرض تعلم لغة ثانية [في الجزائر] شريطة أن تكون هي اللغة الفرنسية”، وفي نفس الوقت يحذر من تدريس اللغة الإنكليزية وينصح: “إذا كانت اللغة الإنكليزية متوفرة في كل مكان، فسيكون لديك تلاميذ أقل ذكاءً”، مضيفا “أن اللغة الفرنسية تظل مفيدة. إن تفضيل اللغة الإنكليزية من شأنه أن يؤدي إلى خسارة مؤسفة ومدمرة للنفوذ [الفرنسي] بالنظر إلى التاريخ المشترك الطويل الذي يربط بلدينا وشعبينا”. وعلى كل حال فهو يرى أن الجزائريين “يريدون اللغة الفرنسية”، ولذا لن ينجح مشروع إدراج اللغة الإنكليزية في التعليم العالي. وقد نسي أن جامعات بلده ذاتها قد غزتها اللغة الإنكليزية دون رجعة.
وفيما يخص دور الجانب الدبلوماسي الفرنسي في هذا الموضوع اللغوي، يصرح البرلماني “بأن النهج الدبلوماسي لإجبار [الجزائر] على إدراج اللغة الفرنسية كلغة ثانية في المناهج المدرسية محكوم عليه بالفشل في الوقت الحالي” … ولمعالجة هذا العائق، يعتقد “أنه ينبغي تطوير أدوات أخرى”.
وعلى كل حال، فلا عيب أن يدافع أي مواطن في كل بلد عن لغته ووطنه، لكن العيب في هذا الموضوع هو أن يعمل على إرغام الغير على التخلي عن لغته ومكتسباته الوطنية. ففي 4 أكتوبر 2022 راسل هذا البرلماني مع أحد زملائه الوزيرة الأولى الفرنسية عشية زيارتها الجزائر، ينبهها بالقول: “هذا الإصلاح [إدراج اللغة الإنكليزية في التعليم الجزائري]، الذي دخل حيز التنفيذ مع بداية العام الدراسي، وسط غموض لا حدود له، يجب ألا ينبهنا إلى خطر تباطؤ التعليم الفرنسي في الجزائر فحسب، بل أيضا إلى تراجع (على المدى الطويل) النفوذ الفرنسي في بلد مرتبط تاريخياً بفرنسا”. ويضيف: “هناك العديد من الملاحظين يدينون هذا القرار الذي اتخذته الحكومة الجزائرية … ويدينون التسرع في فرض خيار سياسي على حساب المستقبل التعليمي لملايين المتعلمين” !
والغريب أن الوزيرة الأولى ردت عليه يوم 3 ماي 2023 (أي بعد 8 أشهر) مشيرة –بلغة الدبلوماسيين- إلى أنه “ليس من صلاحياتها التعقيب على خيارات الحكومة الجزائرية بخصوص الأنماط التربوية في الجزائر”.
خلاصة القول إننا لاحظنا كيف كان المستعمر يريد حرماننا عام 1962 من ثقافته ولغته بينما تغير الحال الآن ويريد فرضها علينا اليوم.