سيبقى الاحتفالُ بالمولدِ النبويِّ الشَّريف مسألةً خلافية، يتعذَّر رفع الخِلاف فيها، لأنها مسألةٌ اجتهاديةٌ مبنيَّةٌ على أدلةٍ ظنيةٍ ومحتملة، فهي إمَّا أدلةٌ صحيحة غير صريحة، أو أنَّها صريحةٌ غيرُ صحيحة، ومن ثمة، فهي لا تقوم على أساسِ حكمٍ شرعيٍّ ثابتٍ بدليلٍ صحيحٍ وصريحٍ، إذْ لابدّ من التفريق بين “مُرَاد الشَّارع الحكيم” من النَّص (القرآن أو السُّنة)..
وهو ما يُعرف بالحُكم الشَّرعي، وهو ثابتٌ مطَّردٌ، لا يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والحال، مثل: وجوب الصَّلاة، وبين “معرفة مُراد فَاهِم النَّص”، وهو معرفة اجتهاد العالِم في استنباط حكمٍ شرعيٍّ من أدلته التفصيلية، والتي يمكن أن يُطلق عليها: “الفتوى الشَّرعية”، وهي محاولةُ إسقاطِ حكمٍ فقهيِّ على واقعةٍ معيَّنة، وهو عملٌ بشريٌّ تقديري، يجعل المسألة نسبيَّةً لا مطلقة، فلا إنكار في المسائل الخِلافية، وهو ما يدفعنا إلى التفريق بين “الحكم الشَّرعي” الثابت بالنَّصِّ، وبين “الفتوى الشَّرعية” المتغيرة بالدليل الظنِّي، للفرق بين “النص” و”الدليل”، فالنَّص هو الدليل الصَّحيح الصَّريح والقطعي، ولذلك يقولون: “لا اجتهاد مع النَّص”، والدليل هو ما يشتمل على أدلةٍ من القرآن أو السُّنة ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة أو أدلة أخرى محتملة (مثل: الإجماع والقياس..). فالاحتفال بالمولد النبوي من المسائل الاجتهادية وليست القطعية، وهي من فروع المسائل لا من أصولها، ولذلك فهي لا تستدعي كلَّ هذا الصِّراع المرير حولها.
يقول المعترضون على الاحتفال بالمولد النبوي إنه غيرُ مشروع، بل هو بدعة،لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلَّم ولا أصحابه، ولا أهل القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية، ولم يرشد أمته إليه، وهو القائل: “مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد”، ويقول عليه الصَّلاة والسَّلام: “مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”، وكان يقول في خطبته: “وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة”، وهي أدلةٌ صحيحة، ولكنها غير صريحة في المسألة، فهو استدلالٌ ضعيفٌ بها.
والذين يجيزون الاحتفال بالمولد النبوي الشَّريف يفرِّقون بين “البدعة الحسنة” و”البدعة السيِّئة”، لقوله تعالى عن أتباع عيسى عليه السَّلام: “ورهبانية ابتدعوها، ما كتبناهم عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رَعَوْها حقَّ رعايتها”(الحديد:27)، فقد امتدَحَهم عليها ولم يذُمَّهم بها، وقوله صلى الله عليه وسلم: “مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة..”، بل أحدَث الصَّحابة رضوان الله عليهم بِدعًا حسَنةً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يطعن أحدٌ في إكتمال الدِّين في قول الله تعالى: “اليوم أكملت لكم دينكم..”، ولا أنه قصَّر صلى الله عليه وسلَّم في تبليغ دينه، ولا أتهمهم أحدٌ بأنهم أعلم منه بالإسلام، ومن ذلك: جمْع القرآن وتسميته بالمصحف في عهد أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه، وجمْعُ النَّاس في صلاة التراويح على إمامٍ واحدٍ في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقوله: “نِعمتُ البدعة هذه”، ورفع الآذان الثاني في صلاة الجمعة في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وشَكْل المصحف ونقْطه في عهد علي بين أبي طالب رضي الله عنه، وهناك مَن خرَّجَ الأصلَ في مشروعية الاحتفال بالمولد من قوله صلى الله عليه وسلم عن مقصد صيام الإثنين: “ذلك يومٌ وُلِدت فيه”، وأنَّ مِن سُنن الأنبياء الاحتفاء والتذكير بمولدهم كقول سيِّدنا عيسى عليه السلام: “والسَّلام عليَّ يوم وُلِدت، ويوم أموت، ويوم أُبْعث حيًّا” (مريم:33)، وأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: “.. وأنَّ كلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة” هي كما قالَ الإمام النووي في شرحه على صحيح الإمام مسلم: “هذا عامٌّ مخصوص (أي لفظه عامّ، ومعناه مخصوص)، والمراد به غالب البِدع”، مثل قوله تعالى: “كلُّ شيءٍ هالِكٌ إلاَّ وجهه” (القصص:80)، فهو لا يعني أنَّ كلَّ شيء سيهلك، ولا يبقى إلا وجهُ الله تعالى.. وغيرها من الأدلة القوية، وهي صحيحةٌ ولكنها غير صريحةٍ في مسألة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف أيضًا.
مع أنَّ شيخ الإسلام “ابن تيمية” ممن يقول ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فإننا نجد له ذلك الفقه المقاصدي في الاحتفال به في قوله في الكتاب ذاته (ج 1، ص 126): “فتعظيمُ المولد، واتخاذه موْسِمًا قد يفعله بعضُ الناس ويكون له فيه أجرٌ عظيمٌ لحُسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم..”.
الشريعة بأنها عامةٌ وشاملة، وأنها تتميز بالاستمرارية والخلود، لقوله تعالى: “قل يأيها النَّاس إنِّي رسول الله إليكم جميعًا” (الأعراف: 158) يقتضي أنْ تكون صالحةً لكلِّ زمان ومكان، إلاَّ أنَّ إشكالية محدودية النُّصوص الشَّرعية وعدم محدودية أقضية النَّاس يطرح إشكاليةً في عدم وفاء هذه النُّصوص للإجابة عن هذه الإشكاليات غير المتناهية، ومع ذلك فإنَّ الشَّريعة الإسلامية تتمتّع بخصائص تجعلها مهيمنة على الزَّمان والمكان والإنسان، ومنها: ما تتوفّر عليه من قواعد فقهية تجعلها تجمع شَتَات المسائل الجزئية غير المنصوص عليها ضمن قواعد كلِّية، وهي من المصادر التي تُمِدُّنا بالأحكام المعتبرة لحجِّيتها من قِبل الشَّريعة نفسِها، ومنها: الحاجة إلى الإجابة عن مسألة الاحتفال بالمولد النبوي التي تتكرَّر في كلِّ سنة، وتصل إلى التفسيق والتبديع والتضليل.
ويعرِّف فقهاؤنا القاعدة الفقهية بقولهم: “هي حُكمٌ كلِّيٌّ، ينطبق على جميع جزئياته أو أغلبها، لتُعْرَف أحكامُها منه”، أي أنه مهما كَثُرت أو استُجِدَّت المسائل المستحدثة، والتي لم تَرِد فيها نصوصٌ صحيحةٌ صريحة، فإنَّه يمكننا الاجتهادُ في معرفة حكمها، بناءً على هذه القواعد الفقهية التي تجمع سِلْك هذه المسائل الجزئية، لاشتراكها في السَّبب أو العلَّة ذاتها، فهي من قبيل المبادئ الكلِّية في الفقه الإسلامي التي تتضمَّن أحكامًا شرعيةً عامة، تنطبق على الوقائع والحوادث التي تتشابه معها في موضوعها أو في علَّتها.
ومن مظاهر التجديد في الدِّين، والتي تنسجم مع الحقيقة النَّصية في الحديث: “إنَّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدِّد لها أمر دينها”، هو: بعث هذا العقل المقاصدي في فهم الشريعة والالتزام بها، وذلك ببيان عِلل الأحكام وغايات الإسلام ومقاصد الشريعة وأهداف الدِّين، ونقل انشغال العقل المسلم من الجزئيات إلى الكليات، ومن الأشكال والمباني إلى الأسرار والمعاني، ومن الرُّسوم والوسائل إلى الغايات والمقاصد، ولا يكون ذلك إلاَّ إذا أخذنا النُّصوصَ بمقاصدها، وأدخلنا التفسير المصلحي على أحكام الشريعة ومعانيها، للتدقيق في مُراد الشَّارع الحكيم وقصده، وهو ما يسمِّيه “ابن القيم الجوزية”(ت: 1350م) “الفقه الحي”، وهو ما يدفعنا إلى ضرورة التعامل مع “الاحتفال بالمولد النبوي الشَّريف” بالعقل المقاصدي، لا بالعقل الفقهي، أي الانتقال من “العقل الفقهي” إلى “العقل المقاصدي”، وصولاً إلى “العقل الحضاري”، وهو ما سيخرجنا من ضيق الخِلاف، والغرق في فنجان الجدل العقيم حول حكم الاحتفال به.
ومن القواعد الفقهية الأساسية في بناء العقل المقاصدي: قاعدة “الأمور بمقاصدها”، والأصل الذي تستند عليه هذه القاعدة هو الحديث الشَّريف: “إنَّما الأعمال بالنِّيات، وإنَّما لكلِّ امرىءٍ ما نَوَى..”، والمقصود بها أنَّ الأحكام الشَّرعية تتكيَّف بحسب قصد المكلَّفين عند إجرائها، فيَعمل الإنسان عملاً بقصدٍ معيَّن فيترتَّب عليه حكم، ويعمل بنفس العمل بقصدٍ آخر فيترتَّب عليه حكمٌ مخالف، وهو ما ينطبق على ما يُحتفل به في مثل هذه المناسبات الدِّينية، فيتركَّز النِّقاشُ على ما يُحتفل به، لا على الاحتفال بذاته، كما قال شيخ الإسلام “ابن تيمية” (ت: 728هـ) في كتابه “اقتضاء الصِّراط المستقيم”: “فتفطَّنْ لحقيقة الدِّين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشَّرعية والمفاسد، بحيث تَعرِف مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدِّم أهمها عند الازدحام..”.
الاحتفالات بمقاصدها: ومع أنَّ شيخ الإسلام “ابن تيمية” ممن يقول ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فإننا نجد له ذلك الفقه المقاصدي في الاحتفال به في قوله في الكتاب ذاته (ج 1، ص 126): “فتعظيمُ المولد، واتخاذه موْسِمًا قد يفعله بعضُ الناس ويكون له فيه أجرٌ عظيمٌ لحُسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم..”، ونجد هذا العقل المقاصدي أيضًا في قول الإمام السُّيوطي (ت:911هـ) في كتابه “الحاوي للفتاوي”(ج 1، ص 182) في باب: حُسن المقصد في عمل المولد: “وهو من البِدَع الحسنة، التي يُثاب عليها صاحبُها، لما فيه من تعظيم قَدْر النبي صلى الله عليه وسلَّم، وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشَّريف”، كما نجد هذا العقل المقاصدي كذلك فيما خطب به الإمام محمد البشير الإبراهيمي (ت: 1965م)، فقال: “أيها المسلمون.. قبل أن تقيموا حفلات المولد أقيموا معاني المولد، وتدرَّجوا من المولد المحمدي – الذي هو مولد رجل– إلى البعثة المحمدية التي هي مولد دينٍ نَسَخ الأديان، لأنه أكملُ الأديان، وهنالك تضعون أيديكم على الحقيقة التي تهديكم إليها هذه الذكرى” (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، ج 4، ص 142)، وهو من الفقه الحضاري في التعاطي المقاصدي مع المولد النبوي الشريف.