تعيش الأمّة الإسلامية، هذه الأيام، نفحات ذكرى ميلاد الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وهي ليست مناسبة لإقامة الحفلات التي تتمايل فيها الرؤوس على وقع مدائح تخرج بعض كلماتها عن حدّ الاعتدال، وليست ليلة لإشعال المفرقعات وإهدار الأموال في شراء مقتنيات ضررها أكثر من نفعها… إنّما هي محطّة تحرّك فيها المشاعر والأشواق وتوجّه في الاتّجاه الصّحيح؛ يستذكر فيها المسلم إرهاصات الميلاد المبارك، وينتقل بسمعه وقلبه إلى أهمّ محطّات السيرة العطرة ليقف في مسيرة الحبيب على ما يؤجّج مشاعره وأشواقه ويزيد حبّه لحبيبه وشفيعه، ليسأل نفسه في النهاية: ماذا قدّمت من أعمال لألقى الحبيب على حوضه وأكون في الجنّة قريبا من منزلته؟
المولد، ذكرى نتلمّس فيها محبّتنا لإمام الأنبياء وسيّد الأولين والآخرين، ونسأل فيها أنفسنا: هل حبيب الرّحمن هو أحبّ الخلق إلى قلوبنا؟ هل نحبّه أكثر من حبّنا لأنفسنا ووالدينا وأهلينا وأبنائنا؟ هذا السؤال من الضروري بل الواجب أن نبحث له عن أجوبة في قلوبنا وأحوالنا، لأنّنا أمام اختبار حاسم يخوضه كلّ واحد منا في هذه الدنيا، اختبار أن يكون الشّفيع أحبّ إليه من نفسه والنّاس أجمعين، يقول الحبيب -صلى الله عليه وآله وسلم-: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين”.. لذلك كان حريا بكلّ مسلم أن يستغلّ هذه المناسبة ليسأل نفسه: هل النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فعلا وواقعا أحبّ إلى قلبي من نفسي؟ هل هو أحبّ إليّ من زوجتي وأبنائي؟ ويسأل قبل ذلك وبعده: لماذا أحبّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وأين دليل محبّتي له؟ وأين مصاديق ذلك في حياتي؟
نحن نحبّ الحبيب -صلّى الله عليه وآله وسلّم- لأنّه حبيب الرّحمن، وأحبّ خلق الله إلى الله.. رفع الله ذكره، وجعل الإيمان به واتباعه شرطا لدخول الجنة، وأمر المؤمنين بأن يصلوا عليه.. رفع قدره ومقامه ليلة المعراج حتى بلغ إلى السّماوات العلا، وارتفع حتى بلغ إلى سدرة المنتهى، إلى مكان لم يصل إليه ملك مقرّب، حتى جبريل عليه السّلام: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم: 8، 9].. ووعده في الآخرة الوسيلة التي هي الدرجة الرفيعة في الفردوس الأعلى.
نحبه لأن الله جعله سببا لهداية البشريّة، وسببا لخروجها من الظّلمات إلى النّور.. ((الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)).. نحبّه لأنّه سبب نجاتنا -بإذن الله- من النّار، ولولاه لكنّا نحن وآباؤنا وأجدادنا وأجداد أجدادنا وأبناؤنا وأحفادنا وأحفاد أحفادنا حطبا لجهنّم.
نحبّه لأنّه تحمّل من كلّ صنوف الأذى ليبلّغ دين الله، ولأجل أن ينقذ النّاس وينقذنا من الهلاك.. كان يعرض الإسلام على كلّ من لقيه، ويتحيّن المواسم التي يقدُم فيها الناس على مكّة ليدعوهم إلى الإسلام.. في مكّة: سبّه الأشقياء وسفّهوا رأيه واتّهموه بالجنون والسّحر، وبصق شقي من الأشقياء في وجهه الشّريف المنير، وخنقه شقيّ آخر، ووُضع الوسخ على ظهره، وتنكّر له عمّه أخو أبيه، فكان يسعى خلفه يصدّ النّاس عنه.. تحمّل المشاقّ وقطع الفيافي، وطاف على القبائل يعرض رسالة ربه.. واجتمع عليه أهل الطائف يقذفونه بالحجارة حتى أدمي عقباه.. وفي المدينة: سال دمه الشريف يوم أحد، ودخلت حلقتا مغفر السيف في وجهه، وتآمر عليه المنافقون واليهود، وراموا أن ينالوا من عرضه الطّاهر وقذفوا زوجته الحصان الران عائشة…
كلّ هذا تحمّله النبيّ -صلّى الله عليه وسلم- لأجل أن يخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور.. ورغم كلّ ما لقيه، فإنّه لم يدعُ على قومه، ولم يرض بأن يرسل الله عليهم عقابا من عنده، بل قال حين أتاه ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق الجبلين على أهل الطائف: “كلا، ل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا”.
كان يفرح أشدّ الفرح إذا أنقذ الله به نفسا من النّار، ويحزن أشدّ الحزن إذا فاتته نفس إلى النّار.. في صحيح ابن حبان أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فمرض، فأتاه النبي -عليه السّلام- يعوده، وقال له: “أسلم”، فنظر الغلام إلى أبيه وهو جالس عند رأسه، فقال له: أطع أبا القاسم. قال: فأسلم. فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده وهو يقول: “الحمد لله الذي أنقذه من النار”.. ويُروى في المقابل أنّ جنازة مرت به يوما، فلما سأل عنها، قيل إنّها جنازة يهودي، حزن لذلك، وقال: نفس أفلتت مني إلى النّار.
كان -عليه الصلاة والسّلام- لا ييأس من هداية المعرضين، ويظلّ يطمع في هدايتهم إلى آخر لحظة.. في مكّة ظلّ يعرض رسالة الحقّ على عمّه أبي طالب، ويتمنّى أن يختم الله له بالشهادتين، إلى آخر رمق، لكن قدّر الله وما شاء فعل.. وفي مكّة، ورغم كلّ ما فعله رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، إلا أنّ الشفيق -عليه الصلاة والسلام- ظلّ يطمع في إسلامه إلى آخر لحظة، وحينما أتاه ولد عبد الله بن أبي حين مات أبوه، وقال: “يا رسول الله أعطني قميصك أكفّن فيه أبي، وصلّ عليه واستغفر له”، أعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- قميصه، وهمّ أن يستغفر له لولا أنّ الله العليم الخبير نهاه ومنعه.
يتبع بإذن الله…