درنة: بصمة الماء! /سالم الهنداوي /كاتب وروائي/ ليبي

24 سبتمبر, 2023 - 09:02
/سالم الهنداوي /كاتب  روائي ليبي

... كل النوافذ المزدانة بالياسمين فتحتها الرياحُ على درنة، وكل نافذة تهشّمت بورداتها كانت شاهدة على موت أجمل المُدن.. درنة "المكان" الذي انخلع من منبته وانجرف في الهدير العالي إلى البحر غارقاً في صخب الماء ليموت بناسه الطيبين، بأحلامهم الصغيرة على الأبواب وأشعارهم الجميلة في المقهى القديم وحكاياتهم في معنى الحياة وذكرياتهم التي كانت من عبق الياسمين وأغصانه في الينابيع.

.. لم يخبرنا من مات تلك الليلة عن لحظة الفزع الأخيرة في العيون، لحظة الفزع التي أسكتت الصراخ بالذهول وألجمت الأطراف ولطمت الجسد بالحجر وأطفأت الروح.. والماء الماكر الذي صعد الطابق الأخير من البناية الشاهقة كان يعرف أن المزيد من البراءة كانت هناك تمسك بسريرها وتصرخ في الفراغ فأسكتها بلسانه الطيني العنيف وأسقطها إلى حضيض مثواها ثم رماها إلى البحر.

.. لم يخبرنا من مات أن السماء اختفت ليلتها عن درنة حين ألقت بكامل مائها الخصيب على مدينة حالمة كادت أن تنام قبل الفجر على زخّات المطر وصوت خرير الماء من مزاريب الأزقة وبين سيقان الداليات بشارع "حشيشة" وعلى مصطبة "الصرواحي" حيث كان يتكيء الجيران والنعناع في المساء، لكن الصرخة القوية سبقت انتباه أطفال شارع "الفنار" وسبقت أذان الفجر بعد حين في الجامع العتيق، والمؤذن العجوز كاد يئم بالمصلّين، غير أنهم جميعاً سجدوا في البحر بغير قِبلة.

.. لم يخبرنا من مات قبل الفجر أن نافذة الدار كانت مفتوحة على بحر درنة الذي هدأ روعه في قصيدة تلاها شاعر درنة في البيت الثقافي، غير أن السدّ الذي اعتلى الجبل كما تعتلي الساحرة الجمل، هبط إلى الأرض كفارس أسطوري يثب إلى البحر في صعقة حنين جارف إلى مراميه القديمة، ليأخذ في طريقه البشر والحجر وأعشاش السنونو وأشجار الرمّان، لينفجر موتاً ويتحرّر جوفه من الماء..

.. لم يخبرنا من مات أن الأنهار لابد لها أن تنتهي في البحر، وأن الوديان السبعة الطليقة في أعالي الجبال كانت تصبُّ في وعاءٍ عظيم من سدّ التراب الذي صنعه الإنسان في الربيع، الإنسان الذي جهل الطبيعة فسدّ شهوة الماء وحرم الأنهار من حنينها إلى البحر.

.. لم يخبرنا من مات في تلك الليلة أن قوافل الموتى كانت بلا زادٍ في الرحيل حين ركب الموتى الماء في جماعات وهبطوا بلا حيل، وكان الماء على عجلٍ وهو يصرخ فيهم بالهدير ويغمرهم بالطمي كي لا يصرخوا في وجه السُّلطة العديمة التي فتحت باب النهر ولم تُحكم باب السد.

.. لم يخبرنا من مات تلك الليلة أن طفلة حي "المغار" التي كانت عند المغيب تلعب في فناء البيت مع شقيقها وتخشى على دميتها من ماء المطر فارقت دميتها التي طفت في الصباح فوق ماء البحر وكانت الطفلة بثوبها الأبيض مثل العروس تمسك بشقيقها تحت الماء والعيون شاخصة إلى السماء.

إضافة تعليق جديد