خدعة الإتحاد من أجل المتوسط / عبد الوهاب دربال/دبلوماسي جزائري سابق

23 سبتمبر, 2023 - 14:09
عبد الوهاب دربال/دبلوماسي جزائري سابق

 

 

أرادت فرنسا تحت رئاسة ساركوزي أن تُحوِّل مسار برشلونة إلى نقلة جديدة أُطلِق عليها حينها” الاتحاد من أجل المتوسط “.UPM
زامنتُ هذه التجربة في مهنتي سفيرًا للجامعة العربية لدى الإتحاد الأوروبي في بروكسل. تجلّى المسعى الفرنسي بشكل واضح في الاجتماع الدّوري الذي يلتقي فيه وزراء خارجية الدول الأعضاء في مسار برشلونة، وقد كان يضمّ في البداية الدول المُطِلّة على البحر المتوسط في الشمال والجنوب باستثناء ليبيا والتي رفض زعيمها الراحل الانضمام إلى هذا التكتل.

نشأ هذا المسار عقب اتفاقية أوسلو بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية ولذلك أصبحت السلطة الفلسطينية جزءا من هذا المسار.
ولمّا أرادت فرنسا ساركوزي الانتقال به إلى فضاء جديد (الإتحاد من أجل المتوسط) استفرغت كل جهودها سنة 2008 في اجتماع وزراء الخارجية بمرسيليا لتَرسم أهداف هذا الإتحاد وآفاقه. وقد مهَّدَت لذلك بتخصيص بعض أوجه التعاون الاقتصادي بين دول شمال المتوسط وجنوبه مثل النقل البحري، والطاقة، والكهرباء، والبيئة، ثمّ غلّفت هذا بالتعاون الثقافي كالمِنح الطّلابية، وتنشيط التبادل الفني في مجالاته المختلفة، ووضعت على رأس لجنة الجانب الثقافي مستشارا يهوديا للعاهل المغربي والمعروف باسم “أزولاي”.
ولمّا كان القط لا يصطاد في سبيل الله تبيّن يقينا أنّ كل هذه البهرجة والاهتمام تهدف إلى أن يمتطيَ الكيانُ الصهيوني صهوة هذا التّكتل لتطبيع علاقاته مع دول جنوب المتوسط ويصبح بذلك شريكا سياسيا واقتصاديا وثقافيا لكل المجموعة.
كان ممثلو الإتحاد الأوروبي يتبادلون الأدوار لترسيخ أركان هذا التنظيم الجديد، ولا يكاد عضو منهم يقترح شيئا إلّا تبعه زملاؤه بالتّأكيد والتّأييد، في حين تفرّق الجانب العربي بين الرّفض والتّحفظ والقبول وهو مظهرٌ مأساوي آخر للوضع العربي المترهّل.
لم يكن ذلك مستغرَبا من الجانب العربي لأنّ بعض دوله قد شرّعت علاقتها بالكيان الصهيوني ويطمع بعض موظفي الجامعة من جنسيات هذه الدول في الارتزاق بمناصب ومسؤوليات ضمن هذه الآفاق الجديدة.
كما أنّ أمانة الجامعة العربية تبدي بعض اللُّيونة مع الأوروبيين في مسائل وقضايا كان يجب أن تُطرَح بداءة على مستوى الأجهزة السياسية لتتخذ فيها قرارات نهائية يتم على أساسها التفاوض والقبول والرفض.

مات الإتحاد من أجل المتوسط، ولم يزد العرب بعده إلّا تشرذما، وانكشفت عورة الإتحاد الأوروبي في أزمة أوكرانيا ليستفيق العالم على تطورات تاريخية يمكن أن تُنهي غطرسة العولمة والأُحادية القطبية. هذه فرصة جديدة أمام العرب ليجمعوا شتاتهم لو التزموا بالقيم والمبادئ التي يردّدونها، فهل من رشد في هذه الأمّة حتى لا تُضيِّع هذه الفرصة مرّة أخرى؟

كل ذلك لم يحدث، واقتنعتُ أنّ أسلوب الموافقة في الاجتماع والتّنصل منه بعد ذلك كما يُفعَلُ مع الجامعة يمكن أن يمرّ مع الأوروبيين. هذا النوع من التّصرف جَرَّأ الأوروبيين على ضمِّ من يوافقهم ومكافأته بتمرير القرارات باسم الدول الأعضاء في الجامعة.
اتّضح أنّ هذا المسعى لن يذهب بعيدا، كما اتّضح أنّ الجدّية المطلوبة مفقودة وأنّ التعبير عن حسن النيات غير كاف لصناعة القرار والالتزام به ومن ثَمَّ خفّت اللّقاءات وأُفرِغت من محتواها وساد أسلوب الدبلوماسية المجاملاتية جميلة الصّياغة خاوية المحتوى.
ولمّا تمّ الاعتداء على غزة بين 25 ديسمبر 2008 و18 جانفي 2009، انكشفت عورة الأوروبيين، كما انكشفت عورة من وافقهم من العرب ليُدفَن الإتحاد من أجل المتوسط غير مأسوف عليه.
إنّ البديهية التي يعلمها الجميع والتي لا يلتزم بها إلّا القِلة هي أنّ الغرب الذي غرس الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي لا ولن يقبل المساس به، وأنّ أمن الكيان الصهيوني من أمنهم، وأنّه لا مصلحه للعرب عندهم إلّا بضمان أمن الصهاينة لأنّه الضامن الأكبر لاستمرار ابتزاز خيرات المستضعَفين. لهذا السبب أيضا تمَّ ابتكار خدعة “الإتحاد من أجل المتوسط”، ولمّا اهتزَّت الثقة في تحقيق الهدف أصبح هذا الإتحاد أثرا بعد عين لوقوف من بقيت فيهم ذرّة وفاء للقضية الفلسطينية في هذه المبادرة الماكرة.
عشتُ هذه التجربة منذ نشأتها وحتى بوادر أفولِها، وكنت أُمَنِّي النفس أن تنعكس آثارها إيجابا على المجموعة العربية في علاقاتها البينية مع الأوروبيين، ولكن الأهداف لا تتحقق بالأماني ذلك أنّ شروط التّلاحم العربي ما زالت بعيدة المنال، واتّضح أنّها وليدة شعارات جوفاء مَرّة باسم المجد العربي التليد وثانية باسم الدّين الجامع واللّغة المشتركة.
ورغم أنّ الحقائق المادية والتاريخية والرّوحية للعالم العربي لا يمكن إلّا أن تكون إسمنت تقارب وتوافق وتوحيد، إلّا أنّها مع الأسف لم تكن كذلك، والسبب ببساطة أنّنا نقول ما لا نفعل، وعقوبة من يفعل ذلك غضب الرّب وتفرُّق الصف (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفۡعَلُونَ) سورة الصّف.

مات الإتحاد من أجل المتوسط، ولم يزد العرب بعده إلّا تشرذما، وانكشفت عورة الإتحاد الأوروبي في أزمة أوكرانيا ليستفيق العالم على تطورات تاريخية يمكن أن تُنهي غطرسة العولمة والأُحادية القطبية. هذه فرصة جديدة أمام العرب ليجمعوا شتاتهم لو التزموا بالقيم والمبادئ التي يردّدونها، فهل من رشد في هذه الأمّة حتى لا تُضيِّع هذه الفرصة مرّة أخرى؟